بقلم: مينا بشير
ما بين كانَ و أصبحَ، رَكَضت، قَطَعتُ المَسافاتِ الطويلةَ و الطُرُقَ الوَعِرةَ المُمتَدّةَ بين الماضي و الحاضِر كأنَني رَحّالةٌ ضائعةٌ في متاهةِ الزمن. في كل مرّةٍ أواجِهُها كانت أوصالي تَرتَعِدُ و أطرافي تتَيَبَّس، نعم، لقد كنتُ أجيدُ الهرَبَ منها، أو منّي، لم يَعُد ذلك مُهِمًّا الآن. حاوَلتُ الابتِعادَ عنها كثيرًا، و اتَّخَذتُ منَ التَجديدِ وسيلةً خَبيثةً لتَفاديها و إنكارِها، و ربَّما لدَحضِها كُلّيًا، لكنَّها مازالَت تُحاصِرُني و تُباغِتُني كلما سَنَحَت لها الفُرصة.
أستَيقظُ ذاتَ صباحٍ جديدٍ لا ذَنبَ لهُ بسابِقيه، و لا دَخلَ له بلَيالي الماضي التي مَرَّت عليَّ قبلَه. أستَيقِظُ و أنا أرتَدي روحًا مُتَجَدِّدةً و أضَعُ نَظّارةً نَظيفةً تَمامًا لا تَشوبُها الأوساخ حتى أتَمكَّنَ من رؤيةِ الحياةِ بصورَتِها الجَميلة. أقِفُ بثَباتٍ و حَزمٍ أمامَ المِرآة، فألفيها هناك، واقِفةً في نفسِ الزاويةِ البَعيدةِ منَ الغُرفة، في مَكانِها المُعتاد، تُلَوِّحُ لي ببَرائة. و أنا التي كنتُ أظُنُّ أنها رحلَت إلى الأبَدِ و أنني قد نَجَحتُ في مَحوِها من صفَحاتِ الوُجود. إنها بعيدةٌ عنّي لكنها في نفسِ الوقتِ قريبةٌ جدًا، و ما أزالُ أشعرُ بها أحيانًا، تَرفسُ صَدري بقوةٍ كجَنينٍ مُشَوَّهٍ يُصارِعُ داخلَ الروح.
ها هي ذي مُجَدَّدًا، نُسخَتي القَديمة، الإصدارُ القديمُ من الذات، سَمّوها كما شِئتم. فهي في جميعِ الأحوالِ كائِنٌ مُبهَمٌ و مجهولٌ إلى حدٍّ ما. رغمَ كل مُحاوَلاتي لدَفنِها في مقبَرةِ الماضي المُخيفة، رغمَ سَعيي الدائمِ لإخفائِها حتى عن نفسي و رَكنِها في قَبوِ ذاكِرَتي، إلا أنها تستَمِرُّ بالظُهورِ أمامي بين الفينةِ و الأخرى. صحيحٌ أنها لا تخرُجُ كثيرًا، لكنَّها بكل تأكيدٍ مازالت حيّة. أراها في وجهي الذي يَتَجَلّى في ما وراءِ المِرآة، أراها في قَسَماتي المُتعَبة، تَختَلِسُ المُرورَ من أمامي في غُضونِ جُزءٍ من الثانية و لا أكادُ ألمَحُها، لكنَّها موجودة.
ظَنَنتُ أنني تغيَّرت، ظَنَنتُ أن تلك النُسخةَ منّي لم تَعُد مُتوفِّرةً في أسواقِ الحياة. بعد كل تلك التَحديثاتِ تظهَرُ أمامي و كأنَّ شيئًا لم يَكُن، يا لها من وَقِحة! إنها تُحاولُ استِفزازي كلما شعَرتُ بشَيءٍ من الطُمَأنينةِ أو السَلامِ الداخِلي، تخرُجُ أمامي كشيطانٍ لا يَكِلُّ منَ الوَسوسة، تُحاوِلُ أن تُذَكِّرَني بما كنتُ عليه في السابِق. كم أكرَهُها، كم هي ساذَجةٌ و بَريئةٌ إلى حَدِّ البَلاهة! لكنّي أعودُ لأسألَ نفسي… تُرى هل يَحِقُّ لي أن أكرَهَها؟ هل يَجدُرُ بي أن أحقِدَ عليها كل هذا الحِقد؟ فتُجيبُني نفسي منَ الأعماق بعد بُرهةٍ من الصَمت: لا.
صحيحٌ أنني تَغَيَّرتُ و أصبَحتُ نسخةً أفضلَ من ذاتي، إلا أنني ما أزالُ ذاتي، مازلتُ أنا، و منَ الطَبيعي أن يكونَ لتلك الذاتِ نُسَخٌ كثيرةٌ و طَبعاتٌ مُختلفة. في النهاية، كل النُسَخِ تَنتَمي إلى نَفسِ الذات! إذن لماذا أكرهُ طَبعَتي القديمةَ رغمَ أنها جُزءٌ لا يَتَجَزَّأُ منّي؟ على مَرِّ العُصور، احتارَ عُلَماءُ النَفسِ في تَعريفِ ذلك الكائنِ الغريبِ المُسَمّى بالذات، و قد ظهَرَت نَظَرياتٌ شتّى عن هذا المُصطلَحِ و صِلَتهِ بالإنسان المُعاصِر، إذ أنَّ لكل إنسانٍ ذاتٌ أو نفس، و أن تلك الذات أو النَفس كائنٌ مُستَقِلٌّ مُنفَصِلٌ تمامًا عنّا. إنها عالمٌ كامِل، عالَمٌ داخِليٌ مَليءٌ بالمَتاهاتِ و الدَهاليزِ و الأزِقّة، و الشخصُ الذَكيُّ حقًّا هو الذي يَنجحُ في فَكِّ شفَراتِ هذا العالَمِ و فَهمِ ذاته، إنه الشخصُ الذي ينجحُ في الاتِّصالِ بتلك الذاتِ كاملةً دونَ الانحيازِ إلى أيةِ نُسخةٍ من نُسَخهِ الكثيرة، و السرُّ هنا يَكمُنُ في التَقَبُّل. إن الاتِّزانَ و النُضجَ يكونُ في تَقَبُّلِ المَرءِ لذاتهِ بشكلٍ عامٍ دونَ كُرهِ أي جُزءٍ أو أي إصدارٍ منها. و اسمَحوا لي هنا بأن أطرَحَ نظَريَّتي الخاصّةَ عن عالَمِ الذات المُبهَم. إنَّ الذاتَ أو النفس البشَرية ليسَت سوى رُزمةٍ كبيرةٍ منَ النُسَخِ أو الطَبعات، و كل طَبعةٍ من هذه الطَبعاتِ تَحمِلُ في طَيّاتِها تَجربةً جديدةً عِشناها فغَيَّرَت منّا إلى الأفضَل. بصيغةٍ أخرى، عند صُدورِ طبعةٍ جديدة، تَتكَوَّنُ في عقلِ الإنسانِ فَلسَفةٌ حَياتيةٌ مُختَلِفة، فَلسَفةٌ أقرَبَ قليلاً إلى الحقيقةِ و المَنطِق، و هذا هو التطَور. و هكَذا كلما أصدَرنا إلى هذا العالَمِ نُسخةً جديدةً منا، اقتَرَبنا أكثرَ و أكثرَ من مُلامَسةِ الحقيقة، و أرتَقَينا في مرتَبةِ الوعي.
أحِبُّ النظَرَ إلى نُسخَتي القديمة على أنها مَرحَلة، مرحَلةٌ حَياتيةٌ وَلَّت و انقَضَت، و رغم سوءِ تلك المَرحلةِ أو صُعوبَتِها، إلا أنها جَميلةٌ دون شَك، فلكلِّ مرحلةٍ إيجابياتُها و جَمالُها الخاص. إن النُسَخَ القديمةَ منّا ما هي إلا مَراحِلُ عابِرة، تحمِلُ منَ الخيرِ و الجمالِ و التَمَيُّزِ بقَدرِ ما تَحمِلُ من العُيوب. باختِصار، سنَظَلُّ نَذكُرُ تلك إصداراتنا القَديمة مهما تَغَيَّرنا، و تلك حقيقةٌ لا مَفَرَّ منها. رغمَ إيماني بأن صَلاحيةَ تلك النُسخةِ القديمةِ قد انتَهَت، إلا أنني لن أرفُضَها تمامًا، لن أنكِرَها و كأنَّها لَقيطة. مهما يَكُن، فهي تُمَثِّلُ مرحلةً من حياتي، و لو لاها لما أصبَحتُ تلك النُسخةَ الأنيقةَ الجديدةَ التي أنا عليها اليوم، فهي التي أوصَلَتني إلى هنا، و رغم كل شَيء، أنا أشكرُها جدًا. لقد تعَلَّمتُ أن جانبًا مُهِمًّا من التَصالُحِ مع الماضي و تَقَبُّلِ النُسَخِ القديمةِ منّا يَكمُنُ في الامتِنان، إذ يَجِبُ على المَرءِ أن يكونَ مُمتَنًّا و يُبديَ بعض التَقديرِ اتِّجاهَ نُسختهِ القديمة. إن تلك النُسخةَ المُغبَرّةَ مُنتَهيةَ الصلاحية هي هَمزةُ الوَصلِ التي دَلَّتني على نُسخَتي الأفضل، و لن أستطيعَ إنكارَ ذلك. أذكُرُ هنا اقتِباسًا جميلاً للكاتبِ الإيراني صادق هدايت حين قالَ في رِوايتهِ (البومة العَمياء) “ هذه الأنا السابِقة ماتَت و تحَلَّلَت، لكن لا سَدَّ و لا برزَخَ بيني و بينها. “ في النهاية، ستَبقى تلك النُسخةُ القديمةُ تَحومُ حَولي، تَبتَسِمُ لي، تُلَوِّحُ لي مِن شاطِئٍ بعيد، و قد تَدعوني لاحتِساءِ القهوةِ معَها في بعضِ الأحيان، لكنَّ عَلاقَتَنا المُسالِمةَ لا تَنفي حقيقةَ انفِصالِنا الأبَدي. فهي مُدرِكةٌ تمامًا أنني لم أعُد هي، بل إنها فَخورةٌ بذلك. فقد أخبَرَتني مرّةً أنها سعيدةٌ جدًا برؤيَتي و أنا أنجَحُ و أرتَقي و أتطَوَّر، و ستَبقى تُشَجِّعُني حتى النهاية.