بقلم : نعمة الله رياض
نحن البشر حتفنا في عواطفنا! في تعلقنا بأشخاص تخيلنا حبهم ، وفي انجذابنا نحوهم، ومطاردتنا العبثية لظل واقع يتفاوت بين شكين؛ شكٌ في إمكان الفقد، وشكٌ آخر في إحتمال الحصول عليه والفوز به …
كانت من ساكني الحي الفقير في المدينة ، تَحمَّلَت الفقرَ، ولكنها لم تكن لتتحمل الكلمات والنظرات التي كشفت لها تواضع هيئتها ، كانت تجلس وقتاً طويلا صامتًة بلا حراك أمام مجري الحياة. إختارت العزلة، والحيطة من خطر اشتهاء ما يصعب الحصول عليه ، قنعت بحياة رتيبة، إعتيادية ، تحركٌ في رِكاب السائرين، ردود باهتة، كلمات مقتضبة. إذعان صامت لرغبات الآخرين ، زهدٌ في الجدل، ترفع عن اللهاث وراء العبث واللامعنى . كانت قانعًة راضيًة، غير راغبة ولا مستعدة للتغيير، حتى وقع ما وقع، وقلب حياتها رأسًا على عقب عادت بالذاكرة لذلك اليوم فى الجامعة.. فبعد أنَّ ظلت عامين منكبًة على الدراسة رأته وهي في السنة الثانية، رجل وسيم ، يرتدي ملابس أنيقة ، تحدثت معه حديثًا عابرًا. تكررت اللقاءات والأحاديث الخاطفة. وجدت نفسها تفتعل المواقف لتتحدث معه. تنتظر لقاءه، وتخطط له ، ابهرها بثقافته العالية وتمكنه من الحديث في مختلف الموضوعات ..
جادت عليها الذكريات المؤلمة، إستحضرت بوعيها المضطرب ما جرى لها قبل أن تقابله، فقبل أن تراه بأشهر قليلة وكانت في آواسط مراهقتها، السن الذي يقف بنا على عتبات كل شئ في لحظة واحدة؛ أجسادنا، أرواحنا، تاريخ الكون، العلة والسبب ، العقل والجنون، التهور والجبن، الزهد والطموح، التساؤل، الحيرة واليقين، فقدان الذات والبحث عنها،. كل شئ دفعة واحدة في لحظة قاسية.
كانت تنتظر في فناء الكلية المنمق بالخضرة واحواض الزهور، بدأ يتحدث. كانت تسمع قوله مختلطًا بدقات قلبها ، كانما كانت تدفع بما فيه إلى شفتيها ، قررت أن تكسر قواعد الغزل وتكون هي البادئة ، نطقت له الكلمة من أعماق روحها .. أحبك .. فقد كان عشقها كالميلاد والموت لا يحدثان إلا لمرة واحدة، ولا يهرب منهما أحد.
يمتلك الصمت الكامل أحيانًا دويًا مقبضًا،. يتضائل الأمل تدريجيًا. ابتسامة غامضة منه. تخلص من حرج مصطنع وبدأ في الرد..
لم تنصت لما قاله، ولا تتذكره، وَصلهُا المعنى، نقلهاُ على الفور من سجل الأحياء إلى قائمة أشباه الموتى. أدركت معنى أن تُبنى الأشياء في سنوات وتنهار في ثوانٍ. كل ما كان يفصل بين الحياة وشبه الموت ثوان! كلمة تخرج من فم إنسان! رده كان كالموت الرحيم الذي يحدث دون أن يفعل أحدٌ لك شيئًا إلا أن يفصل عنك شرايين الحياة!!. الح عليها سؤالٌ شغل عقلها: وفق أي قانون ينال من ينال، ويُحرم من يُحرم؟! ولمَ خُلقنا أضعف من أن نتحمل فقد الأشياء بعد التعلق بها ؟!
هربت من أحزانها إلي بطون الكتب ، لم يكن عقلها يتوقف عن النبض حتى أثناء النوم، علها تقف على عتبة اليقين. غاصت في خيال الأدباء، حارت بين مجادلات الفلاسفة، بحثت في التاريخ عن منطق للواقع يشير إلى نقطة نهاية لكون بدا فجأة بلا نهايات، مملوءاً بالثقوب والتشوهات والنقائص، فقرٌ، فسادٌ، تسلط، شقاء، ألم، عبثية، عقلانية، خرافة، مادية، إيمان، وثنية، أشياء أكبر من استيعاب البشر!!.
برغم العناء، عادت من رحلتها العقلية ، تحولت إلي ثقبً أسودً لا هم له إلا ابتلاع الأشياء الجميلة. وتمر الأيام. تفقد الأحزان أوزانها ، وتتركنا نسير كالآلات على قضبان الأيام ذهابًا وجيئة بلا هدف أو نقطة وصول. تزوجت، كسائر الكائنات الحية! كيف؟َ! ومتى؟! وممن؟! الإجابة : جسد راقد بجانبها تفصله عنها في الطِباع والتفكير والطموح والفعل بُعد القطب الشمالي عن الجنوبي دهشة الزوج لم تكن أقل من دهشتها، غير أن كلًا منهما كان يداري ما بداخله، ويرسل لشريكه النفور والاغتراب مشفرًا على الوجه والجسد قبل الكلام. كانت الزوجة تشعر بكثير من النفور مظاهرها البكاء والنحيب والسخط ، والشكوى الدائمة من كل شئ ومن اللاشئ، فلم يذق من الزواج طعمًا للجسد، أومذاقًا للروح. جنين تَحرك في أحشائها زادها سخطًا وبكاءً . رزقت بطفل جميل إحتل قلبها وتربع في وجدانها ، وإستعانت به لتمضية الزمن الغادر الذي لا يرحم .. مضت من الأعوام علي زواجها خمسة ، صارحت زوجها أنها لم تعد تحتمل العيش معه وتريد الانفصال . رجته أن يترك لها الطفل لإنها لا تتصور الحياة بدونه ، وافق علي طلاقها وترك لها الطفل وغادر المنزل ، حذروها من إمكان طليقها ان يسترد الطفل حال بلوغه السن القانونية ، تجاهلت كل ذلك طالما يرقد ابنها في دفئ أحضانها .. ولكن حدث ما لم تتوقعه ، طليقها الذي سبق أن تخلي عن الطفل طالب بضمه إلي أسرته الجديدة ، جاء إليها موضحا أنه تزوج حديثاً من إمرأة إتضح أنها عاقر ومن الصعب علاجها ، فإقترحت عليه زوجته الجديدة ضم إبنه من زوجته السابقة بطريق ودي، أو يطالب بحقه من محكمة الأسرة .. جن جنونها وفقدت عقلها وأخذت تدور في منزلها تحطم الأثاث وتمزق الملابس وتخدش وجهها بأظافرها ، وفي النهاية إنهارت علي الأرض تبكي وتولول ، فلم يبقي من الحياة ما تعيش لأجله.. أصبحت تعاني من هلاوس سمعية وبصرية. صدمتها في الحياة والحب جعلتها تتخيل أشياءًاً لا وجود لها..
تسلمت إخطاراً من محكمة الأسرة بطلب الحضور برفقة إبنها ، وافقت علي الذهاب وهي تضمر في نفسها أمراً .. إطلع القاضي علي أوراق القضية ، سأل طليقها بضعة أسئله ،ثم جاء دورها ، لم تجب علي أي من الأسئلة ، آثرت الصمت ، ضمت طفلها بقوة إلي صدرها وهم يحاولون إقتلاعه منها ، لم يتوقف بكاء الطفل وصرخات الأم لحظه واحدة ، أثناء إنصراف طليقها حاملاً طفلها أخرجت مسدساً كانت قد إشترته خصيصاً ،أطلقت طلقة نحو طليقها ، أخطأت طريقها لتصيب الطفل في مقتل … صمتت تماما وصمت معها كل الوجود، صارت إلى تيه وهذيان ، في مستشفي الأمراض النفسية ، شخص الأطباء النفسيين حالتها بانها تعاني من إختلال عقلي خطير ، ووضعوا قيوداًعلي حركتها خشية أن تقدم علي الإنتحار .!