(و ما قدروا الله حق قدره)
إن واقع الجهل و التخلف الذي يتسم فيه قسم كبير من مجتمعنا والذي شكل ركيزةً أساسية لظهور الإلحاد العلني و إن كان موجوداَ منذ عصور بشكل خفي و خجول , ولكن تغذية هذه المسببات بالإضافة إلى أيادي خفية تعمل بجد دونما ملل إجتماعياً و إعلامياً و ثقافياً و أخلاقياً ساهم في تفاقمه .
ولكن من المسؤول عن عدم كبح جماح هذا الإلحاد و انتشاره المرعب في أرض الأنبياء ؟
و من يغذيه و يعطيه أسباب الإستمرار و البقاء في عقول الناس على اختلاف انتماءاتها ؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة لها إتجاهات عدة فإن ظهور تيارات سلفية و دينية متشددة كفيلة بتحويل مسار شرائح كبيرة من الناس بعيداً عن طريق الله . وكذلك قلة الوعي وعدم فهم المعاني الدينية و تطبيق الشرائع السماوية بالشكل الصحيح واللائق كان له الدور الأكبر بالإبتعاد عن الهداية و الإيمان ,
و إذا عدنا لمعنى كلمة (إلحاد ) من ناحية فلسفية , فإنها تعني معرفة الشيء ثم إنكار وجوده , فالإنسان بالفطرة يدرك أن هناك قوة خفية جبارة تهيمن عليه و تمنحه أو تمنعه لذلك يعبدها و يبتهل ويلتجئ إليها , وهناك من يعتقد أن هذه القوة ليست الذات الإلهية (حاشا لله ) و إنما نسبها البعض للطبيعة أو لأصنام صنعتها خرافات الأولين أو حتى لحيوانات أو للشيطان نفسه . و هذا الكلام كما يشمل الطبقات الفقيرة فكرياً و تربوياً فهو يشمل أيضاً طبقة المثقفين و المتعلمين و الذين لبعضهم إعتقاد بالأفكار الإلحادية, و نحن نرى أن عاقبة الأمر وخيمة على أبنائنا و على أخلاقهم و حياتهم و طريقة تفكيرهم تجاه أمورٍ تربينا عليها و اعتبرناها من المقدسات .
ولكن الآن المشكلة الحقيقية هي فيمن يشوه فكرة الدين ( أي دين سماوي ) و كيفية التصدي للفكرة المشوِهة وليس التصدي للدين كما يفعل البعض . فقد تولى بعض المتشددين دينياً مناصب خلافية و أميرية وولاة و قضاة وهم بالكاد لا يلمون بأصول الشريعة ولا تكاد آيات الله تعالى تتجاوز حناجرهم . فهم بالتطبيق الصارم و العنيف لمبادئ الدين قد جعلوا الناس تنفر منهم و منه , وهناك من نفر و كره الله تعالى ( جلّ جلاله) بسبب هؤلاء الشرذمة من المتعصبين . و هكذا ظهر الإلحاد علناً دون خوف كرد فعل غير طبيعي على أولئك المتعصبين و من يستغل الدين لأغراض سلطوية و شخصية و لأجل تقديس الخرافات التي تغرق الناس بالجهل والسخافات و لإماتت العقل و دوره في التفكر و السعي للمستقبل . وماذا كانت النتيجة ؟؟
في حقيقة الأمر و نتيجة لذلك الصراع المقيت بين متعصبين و ملحدين يخدرون البشر بكلامهم لمآرب شيطانية وجدنا انفسنا أمام خيارين أحلاهما مر . فإما أن نكون مع قاطعي الرؤوس أو أن نكون مع هؤلاء الحمقى الذين لم يقدروا الله حق قدره و لم يتعبوا أنفسهم بالبحث عن دلالات وجود الله في الكون و في أنفسهم ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) , وهنا تكمن الكارثة الحقيقية في الإنتماء لأحد الطرفين ولكن ماذا عن رأيهم بنا نحن الذين نقف على الحياد و نسمي أنفسنا بالمؤمنين المعتدلين دون تطرف و بعيدين عن الإلحاد الغبي, فنحن بنظر المتشددين لسنا إلا مرتدين و كفرة بحاجة للتقويم بالسيف , و بالنسبة للملحدين فنحن أشخاص تم تعليمهم مفاهيم الدين في المدارس و المعابد و الحارات و السهرات العائلية أيضاً , فعرفنا شكل الدين دون تفكير أو بحث و دون سؤال عن مضمونه لأنه كان ممنوعاً علينا السؤال ببعض مناحي الدين ( لأنهم لايعرفون الإجابة لذلك حرّموا السؤال ), و حقيقة الأمر أننا نقبل أي فكرة دينية بشكلها الجاهز و صورتها الحالية و إن كانت مزيفة (دخيلة على مفاهيمنا لغاية تسميم أخلاقياتنا ), و لنا أن نعرف أن للفطرة السليمة و التربية الصالحة و التعريف الواقعي و الحواري و المجرد من العواطف المنحازة و الإنفعالات الدور الإيجابي الأعمق في تجنب تفاقم ظاهرة الإلحاد بكل أشكاله . فإننا و إذا كنا حقاً ندّعي فهمنا و إيماننا بوجود الله في حياتنا و التنظيم الإلهي لكل شيء في الكون بدقة مطلقة ,فعلينا أن نرفع من مستوى خطابنا الفكري و الروحي ليتمكن أصحاب النظريات الملحدة من تفهمنا و التعامل معنا على أننا بدرجة وعي كافية لشرح مفهوم وجود الله و تأثيره على الكون ككل , من وجهة نظر علمية و إثبات مدلولاتها بالقرآن الكريم و الأحاديث الصحيحة بعيدة عن المغالاة في الأحاسيس و الأقوال و في ردات الفعل و اللاعقلانية التي تتميز بها بعض خطاباتنا و بالاستهتار و الإستخفاف بعقلية ووعي الشخص المخاطَب و المستمع, فيجب أن نفهم أولاً بأن تلك الفكرة القائلة (الدين أفيون الشعب ) إنما أتت لتخرج الشعب آنذاك عن سلطة الكنيسة و لتهيمن أيادي المزارعين و طبقة العمال الكادحة على سدة الحكم – على حد زعمهم- إبان ظهور الثورة السوفياتية , و منذ ذلك الوقت إتسع نطاق محاربة الدين بحجة أنه وسيلة تحرر, وأصبح أداة بأيدي البعض لبسط النفوذ و نهب الثروات , ولكن الأمر أخذ بعداً آخر فيما يتعلق بإيمان الناس المطلق بوجود الله تعالى و قدراته . و إذا تحدثنا عن مجتمعاتنا الشرقية نجد أن الكثيرين لا يرون من تطبيق الدين إلا الشعائر التعبدية فقط (الدين لله و الوطن للجميع ) . بل و حتى الشعائر لا يقومون بها بشكل جيد و صحيح , و الآن بعضهم ينادي ب اللادين و إقامة الإلحاد قائلاً : أين الله مما نعانيه اليوم من ظلم و اضطهاد .هنا أذكر قوله تعالى في كتابه الكريم (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) الشورى (30) –
و نقول أنه هناك بيئة مساعدة على ظهور هذه الفئات من الناس و من كل الطبقات و كل ذلك نتيجة عدم قيام بعض من يمثل هذا الدين أو ذاك بواجباتهم بالتعريف عنه و تطبيقه بواقعية وعقلانية بعيداً عن التصنع و التمثيل , و طبعاً بالإضافة إلى بعض من أساء للديانات السماوية بإستغلالها لأغراض شخصية أو مذهبية أو غير ذلك , و من أخذ الدين لهواً و لعباً بالمزايدة عليه بالأقاوي و التهويل أمام العامة للظهور بمظهر المتدين الواعظ الرشيد أمام من يحسبهم (الرعية الساذجة ) , فهل حقاً نستطيع إيقاف موجة اللادينيين بأساليبنا الأولية ؟
و هل لنا أن نواجه الإنحلال الأخلاقي الذي يدعون إليه دون خجل بطريقة داعشية و فوضوية كما يفعل المتشددون اليوم ؟
إننا بهذا نهدم الدين و القيم و المبادئ بأيدينا و نخلق من أزمة الإلحاد أزمات , و نرسخ لمعتقد زائف في عقول أبنائنا مفاده أن العنف أصبح من وسائل الوصول لله . و الله من أعمالهم بريء و كذلك نحن , إذاً علينا أن نتمعن بأساليب محاربة هؤلاء الملحدين و المتشددين الذين هم في خندقٍ واحد و بطريقتهم أي عن طريق الإقناع و الحوار أولاً و بشفافية عالية دون تحيز ( و هنا نتكلم عن الملحدين المثقفين وبعض المتدينين الذين يمكن لهم أن ينصتوا للآخر) لإقناع كل من يظن أن الإلحاد أو التشدد هو الحل بأن يبتعد و يتجنب هذا الحل و إن كانت الأثمان باهظة حتى يستطيع أن يعيش حياةً متوازنة روحياً ونفسياً و إجتماعياً .
و هذا الأمر يلزمه ثقافة عالية و إرادة و عزيمة صلبة و يتطلب وقت و عقل منفتح على الحوار ووعي متفهم للرأي المخالف , و الإعتماد على النقد البنّاء بلا عنف و الرد الحكيم دون إساءة و تجنيد وسائل الإعلام و أشخاص متحدثين ببلاغة لغرض توعية النفوس الضعيفة والمستسلمة لرياح الإلحاد , و بهذا نكون قد أقمنا الحجة على من خالفنا و ليس علينا حرجٌ أمام الله فيمن لم يوافق أو يهتدي , و تذكروا أننا مسؤولون بشكل أو بآخر عن إنقاذ أبنائنا و مجتمعاتنا من الضلال و التبعية العمياء لعقلية الشيطان المتخفية تحت مئات المسميات , و منها الإلحاد و التشدد و هما وجهان لعملةٍ واحدة , بالنظر إلى نتائجهما على المجتمعات ككل , فعلينا تجنب الإنجراف الأعمى وراء نهجهم, و في استدراج الناس و تخدير العقول و القلوب فهل لنا إلى ذلك سبيل ؟.