بقلم: نعمة الله رياض
لإغلاق مكتبه في هيئة الطاقة الذرية الذي يعمل بها منذ أكثر من أربعة أعوام ، وعندما هم بحمل حقيبته ليغادر ، رن جرس التليفون وفي مكالمة تليفونية مقتضبة طلب فيها رئيس هيئة الطاقة الذرية من المهندس / نادر الحضور فوراً لمكتبه لإمر هام ، أغلق نادر مكتبه وتوجه لحجرة رئيس الهيئة الذي قام بإطلاعه علي تقارير وبلاغات من الأهالي عن مشاهدة سحابة من الدخان لونها بنفسجي رابضة علي الأرض بالقرب من المفاعل الذري للأبحاث الموجود في منطقة أنشاص ، مع رصد أضواء غريبة تحوم في سماء المنطقه ، وتخوفت التقارير أن يكون لهذه السحابة تأثيراً ساماً أو إشعاعياً علي المقيمين في المنطقة ، وطلب رئيس الهيئة من المهندس / نادر التوجه فوراً للمكان وفحص السحابة باعتباره خبيراً في الطاقة الذرية ويتعامل مع الإشعاعات ، واتخاذ الإجراءات اللازمة لإمتصاص هذه السحابة وتشتيتها .. أسرع نادر بركوب سيارته وتوجه بها لإنجاز المأمورية المكلف بها ، في الطريق أخبر زوجته كوثر بالهاتف النقال ما يحدث وطلب منها ان تتناول طعام الغذاء بدونه وأنه يأمل أن يعود للمنزل قبل غروب الشمس ، تمنت له كوثر التوفيق في رحلته وطلبت منه ان يأخذ الحذر في الطريق ليعود سالماً .. جلست كوثر في شرفة المنزل المطلة علي الشارع الرئيسي في إحدي التجمعات السكنية الراقية بضواحي القاهرة ، وإستعرضت حياتها مع زوجها التي مر عليها حوالي ثلاثة أعوام ، ولم يرزقا بعد بطفل يضيء عليهما الحياة ، كان عمرها قد تجاوز الثلاثين عاماًوكان نادر يكبرها بسبعة أعوام ، حياتهما كانت تسير هادئة سعيدة بلا منغصات أو مشاكل كبيرة، فدائماًكانا يتناقشان بهدوء ويتوصلان لحل يرضيهما .. وصل نادر الي منطقة الحادث ، التي تبعد عن القاهرة حوالي 70 كيلومتر، مع بعض المهندسين والفنين العاملين في مفاعل أنشاص كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة عصراً وما زالت السحابة في مكانها لم تفارقه ، بدأ الفنيون في تصوير السحابة بالفيديو وسجلوا فوران مكوناتها وتموجها ، طلب نادر أن يتطوع أحد من الحاضرين للذهاب لموقع السحابة وجمع عينة من مكوناتها ، كما طلب قياس مستوي الإشعاع الصادر منها .. لم يستجب أحد لطلبه ، كرر نادر طلبه وتكرر العزوف ، فقرر نادر أن يذهب بنفسه ، إرتدي نادر بدله عازلة تشبه بدل الغطس البحري وتغطي كامل جسمه من أعلي رأسة حتي أسفل قدميه ، وبها نظارة زجاجية للرؤية مثبتة باحكام في البدلة وهي مصممة خصيصاً للوقاية من الإشعاعات الضارة . أظهرت النتائج الأولية للفحص مستوي عادي للإشعاعات ، ولكن تحليل عينة السحابة سيأخذ وقتاً ، قرر نادر إستدعاء عربة صرف صحي مجهزة ومتخصصة لإمتصاص الغازات والأبخرة، انتهت بذلك مأموريته وأعد لرئيس هيئة الطاقة الذرية تقريراًعن المأمورية .. في صباح اليوم التالي صحا نادر مبكراً كعادته وتوجه للحمام للإغتسال ، نظر إلي المرآه فدهش لرؤية وجهه ، فقد كانت بشرته داكنه بعض الشئ كأنه قد عاد توا من قضاء أجازة في المصيف !! لم يهتم كثيراً وواصل حلاقة ذقنه وارتدي ثيابه وتناول طعام الإفطار مع زوجته كوثر وأعطاها قبله وربت بلطف علي شعرها قبل ان يتوجه لعمله .. جلس نادر في مكتبه وبدأ في الإطلاع علي الرسائل الواردة عن طريق الإنترنت وقام بالرد علي بعضها وتحويل البعض الآخر للجهات المختصة .. مضي بعض الوقت عندما أحس نادر بصداع خفيف أخذ يشتد وتخيل انه يسمع أصواتاً تتكلم في اذنه بلغة غريبة !! إنزعج نادر بشدة وإتصل بالهيئة يطلب اجازة في اليوم التالي لشعوره بالتعب والإرهاق .. أمضي نادر يوم أجازته نائماً آملاً أن يخف الصداع الذي انتابه ، في صباح اليوم التالي إختفي الصداع الذي لازمه يومين كاملين ، ولكن عندما هم بإرتداء القميص والبنطال للذهاب لعمله ، إكتشف انهما أكبر قليلاً من مقاسه العادي ، نادي علي زوجته التي اندهشت مما تري ، فقد كان كم القميص أطول من ذراع نادر بحوالي 2 سم !! نفس الملاحظة كانت علي البنطال الذي أصبح أطول من ساق نادر ويصل لأرضية الشقة!! ذهبت كوثر إلي خازنة الملابس وهالها ما شاهدته ، فقد كانت جميع ملابس زوجها أكبر من حجمه الحالي!! ، لجأت كوثر إلي ملابس زوجها المخزنة من الأعوام السابقة ووجدت مجموعه من الملابس تكاد تفي مقايسها بالمطلوب .. في اليوم الذي يليه فوجئ الزوجان بأن الملابس القديمة الضيقة التي إستخدمها نادر ، صارت بين يوم وليله أوسع من مقاس جسمه ، نظر الزوجان لبعضهما وتوصلا لتفسير أرعبهما وهو أن جسم نادر أصبح ينكمش بمرور الوقت !! سارع الزوجان بالذهاب للمستشفي التخصصي التابع لجهه عمله وشرحا ما يحدث لنادر بعد تعرضه للإشعاعات ، طلب الطبيب عمل أشعة لكامل جسم نادر كل يومين ولمدة خمسة عشر يوماً ، علي أن يعودا اليه لتقييم الوضع .. قدمت كوثر صور الأشعة المطلوبه للطبيب وهي تقول :- لقد أصبح زوجي يا دكتور أقصر مني بعد أن كان أطول مني بعشرين سنتيمتر.. نظر إليها الطبيب وقال لها :- للأسف يا سيدتي، إن حالة زوجك مثل إسمه ، حاله نادرة ، فقد تعرض زوجك لإشعاع غامض أقوي من أي إشعاع معروف لنا وإخترق البدلة المضادة للإشعاعات ، الأحدث تصميماً حتي الآن وأصابت جسد زوجك ، لا نعرف حتي الآن مصدر هذا الإشعاع ، قد يكون من الفضاء الخارجي للأرض أو سلطه علينا سكان من الكواكب الأخري .. سألت كوثر الطبيب :- ولماذا إستهدف منطقة أنشاص بالذات؟ قال الطبيب:- ربما لأن فيها مفاعل ذري صغير للأبحاث يناسب أبحاثهم .. واصلت كوثر أسئلتها :- وهل يوجد علاج لزوجي يوقف إنكماشه؟ رد الطبيب بوجوم :- للأسف إن إنكماش جسم زوجك المتتالي يعرف بحالة تسمي التغذية المرتده الموجبة ، سألته كوثر وعلي وجهها تعجب ودهشة:- ما هذا الذي تقوله يا دكتور إني لا أفهمه ؟! رد الطبيب :- سأشرح ذلك بطريقة مبسطه ، نبدأ بالتغذية المرتدة السالبة فهي أساس معظم التحكم الأتوماتيكي ، ومثال ذلك منظم وات للبخار الذي يحافظ علي سرعة دوران المحرك ثابته ، فكلما زادت سرعة المحرك زاد غلق الصمام للبخار والعكس صحيح ، فالمخرج هنا هو حركة الدوران تعاد تغذيته للمحرك عن طريق الصمام ، والتغذية المرتدة تعتبر سالبة لإن مخرجا عالياً (الدوران السريع) له تأثيراً سالباًعلي المدخل (الإمداد بالبخار) ، أما في حالة التغذية المرتدة الموجبة ، فكلما زادت السرعة عملت التغذية علي زيادة حركة الدوران أكثر وأكثر ، والتغذية المرتدة الموجبة لا تؤدي فحسب إلي زيادات منطلقة تصل للإنفجار، وانما يمكنها أن تؤدي أيضاً إلي إنخفاضات منطلقة تصل بالنظام أن يخنق نفسه حتي يتوقف ، وهذا بالضبط ما يحدث ، وما سيحدث لزوجك ، فسينكمش بطريقة لولبية متسارعة حتي يختفي تماما ، ولا نستطيع للأسف أن نفعل له شيئا.. أصيب نادر وكوثر بالذهول وجلسا في مسكنهما وشعرا بإحباط شديد .. قدم نادر إستقالته من الهيئة وإكتفي بالمعاش مع مرتب زوجته التي تعمل في قناة فضائية خاصة ، وتقبل حالته الصحية الجديدة الميؤس منها ، وتفرغ لقياس طوله ووزنه وكمية الطعام التي يتناولها كل يوم ، فبعد شهر من تعرضه للسحابة المشعة أصبح طوله قريباً من طول طالب في المرحلة الثانوية ، وانخفضت كمية طعامه بمقدار 25% ، وبعد شهر آخر كانت كوثر تأخذ بيدة عند عبورهما الطريق ، كأنها تمسك بيد طالب في المرحله الإبتدائية ، ومر شهر ثالث طلبت فيه كوثر من ورشة للنجارة تصنيع منزل خشبي صغير يناسب إحتياجات طفل في الرابعة من عمره ، وفي الشهر التالي إضطرت لنقل زوجها نادر الي قفص خالي للعصافير، لأن القطط تهاجم المنزل الخشبي بحثاً عن شيء متحرك بحجم الفار!! لذلك كانت تغلق باب المطبخ باستمرار وبداخله قفص العصافير الذي يسكنه نادر ، كما تركت سحلية أليفة من نوع السقنقوريه الزرقاء وهي آكله للحوم والحشرات والفواكه والخضراوات الطازجة .. ذات يوم ولدي عودتها للمنزل ذهبت للقفص لتقدم طعام العشاء لزوجها فلم تجده ! بحثت عنه في كل مكان ولم يظهر له أي أثر، إتصلت بالشرطة وقدمت بلاغاً بفقد زوجها ، لم تعلم إن نادر أصبح في حجم الصرصار وإستطاع أن يهرب من السحلية الجائعة التي نسيت كوثر إطعامها ، فزحفت نحو قفص نادر ومدت لسانها الأزرق الطويل بين الأسلاك محاولة إصطياده ، فأسرع وتسلل خارجاً من بين أسلاك قفص العصافير وتسلق نحو شباك المطبخ المطل علي حديقة المنزل وجلس علي أرضها منتظراً زوجته أن تخرج بالسيارة للبحث عنه ، وفعلا شاهد زوجته كوثر تقود السيارة في طريقها للخروج من باب الحديقة ، نادي عليها بكل قوته ولم يصل صوته الضعيف إلي أذنيها..سمعها نادر وهي تكلم صديقة لها بالتليفون وتخبرها انها ستقيم في منزل والديها لعدة أيام ، للتخلص من الإحباط الذي عشش في نفسها .. وهكذا وجد نادر نفسه محاصراً في الحديقة ، عثر علي إبرة تريكو إتخذها كسيف للدفاع عن نفسه، وتخلص من ملابسه التي ما عادت تصلح له ، وأصبح عريانا كما ولدته أمه.. أدرك نادر أن نهايته قد إقتربت، وعاجلاً كان أو آجلاً سيصبح طعاماً سائغاً لضفدع يؤدي قفزاته في الحديقة أو لقط يلهو به ويداعبه قبل أن يلتهمه .. قال لنفسه :- ينبغي الا أحزن ، فالناس يموتون كل يوم بسبب أو بدون سبب ، وهكذا قدري، أن أولد عرياناً وأن أموت عرياناً .