بقلم: نعمة الله رياض
لم يتوقع فهمي انه سيواجه مشكلة كبري كهذه في حياته، فحياته كانت بسيطة ورتيبة ، ليست بها مفاجآت تذكر ، فقد نشأ في عائلة متوسطة الدخل وتعلم في المدارس والجامعات الحكومية حتى حصل علي شهادة تجارية عليا في المحاسبة ، لكن بسبب قلة الفرص المتاحة ، لم تؤهله هذه الشهادة لشغل وظيفة مناسبة لمستوي تعليمه ، فاضطر لقبول وظيفة متواضعة كسائق خاص لرجل أعمال كبير ورئيس مجلس إدارة أحد الأندية الرياضية المشهورة إسمه جابر.. لم يكن فهمي متزوجاً بعد، وكان يتقاضي مرتباً ضئيلاً يكفي بالكاد لمعيشته في شقة صغيرة يستأجرها بمنطقة بين السريات بحي الدقي القريب من وسط القاهرة ، فما بالك بان يوفر قدراً من المال لتجهيز شقته ليتزوج فيها ، لكن القدر يسر له فتاة رضيت بالزواج منه ، كانت نادية ، وهذا اسم زوجته ، تتمتع بجاذبية وجمال طبيعي يعوضاها عن الظروف التي تواجه زوجها فهمي وفوق ذلك كان عندهما طموح لا حد له في تغيير واقعهما .. لقد رضي كلاهما أن يجدفا معاً في قارب الحياة ..بعد بحث ودراسة للعاملين تحت إمرته ، إختار رجل الأعمال جابر ، فهمي لقيادة سيارته ، وذلك لوسامته ولمستوي تعليمه وأخلاقه الحسنة وفوق ذلك لقيادته الآمنة والسلسة.. ومقابل ذلك أخلص فهمي في خدمة الرجل نهاراً وليلاً وكل حين ولم يتواني في تلبية أوامر سيده في أي ظرف كان .. توطدت العلاقة بين رجل الأعمال جابر والسائق فهمي وأصبح يأتمنه علي أسراره الشخصية وأسرار العمل ..
بالرغم من تحسن دخل فهمي نوعاً ما، إلا أن نادية زوجته لم تكن تشعر ابداً بالسعادة ، ففي قناعتها أنها وزوجها ما زالا يسبحان في قاع الطبقة المتوسطة ، ويمكن أن يهبطا في أي وقت للطبقة الفقيرة .. وفي نفس الوقت كانت ناديه تعتقد انه بإمكان المرأة الجميلة والتي تمتلك الذكاء الفطري ، أن تصعد للطبقة الأعلى إذا كان في حوزتها ملابس فاخرة وحلي براقة وعلاقات إجتماعية نشطة ..
ذات يوم طلب جابر من فهمي أن يذهب به إلي النادي الرياضي ليحضر حفلة تكريم له بمناسبة خدماته الكثيرة للنادي في فترة توليه رئاسة مجلس الإدارة وبمناسبة حصول فريق كرة القدم علي بطولة الدوري للعام الثالث علي التوالي .. حضر جابر الحفلة ودمعت عيناه من الفرحة عندما تسلم كأساً ذهبياً مثبتاً عليه جوهرة حمراء اللون من الماس ومعه شهادة تقدير.. إنتهي الحفل الساعة الثانية صباحا وخرج جابر من النادي واعطي فهمي حقيبة جلدية فاخرة بداخلها الكأس وشهادة التقدير وسمح له بفتح الحقيبة ليري الكأس ، ثم طلب منه توصيلها إلي منزله بالزمالك وشدد عليه أن يحافظ عليها لاعتزازه بهذه الهدية ، وأخبر فهمي أنه سيكمل السهرة حتي الصباح مع أصدقائه وسيتولى واحد منهم إعادته إلي منزله ، ومنحه إجازة في اليوم التالي للراحة .. كانت المسافة بين النادي الرياضى ومنزل جابر بالزمالك قصيرة لم تستغرق سوي دقائق معدودة ، وفور وصوله بالسيارة أمام منزل جابر، وخروجه منها ومعه الحقيبة ، حدثت مفاجأة غير متوقعة ، فقد هاجمة شخص كان يتربص به في الظلام وضربه بعنف علي رأسه من الخلف ، فوقع فهمي علي الأرض مغشياً عليه ، انتزع المهاجم الحقيبة من يد فهمي وأسرع مبتعداً بها إلي شارع مظلم مجاور ، فتح الحقيبة وأخرج الكأس وأخفاه بين طيات ملابسه وأسرع بالفرار تاركاً الحقيبة علي الأرض.. أفاق فهمي من غفوته واسترد وعيه ببطئ ونظر حوله مذعوراً ، وسرعان ما أدرك حجم الكارثة التي ألمت به .. جري في الشوارع المظلمة بجنون يبحث عن السارق حتي عثر أخيراً على الحقيبة مفتوحة وملقاه على الأرض في شارع مظلم وبها شهادة التقدير ، وليس بها الكأس !! أحس فهمي بأنه على وشك الإنهيار ، ولكنه تماسك وذهب إلي منزله وحكي لنادية ووجهه شاحب ما حدث ، قال لها :- لقد أكرمني جابر ولا يمكن التخلي عن مسؤوليتي تجاهه ، ولن يفيدنا إبلاغ الشرطة أو إعلان في الصحف ،لقد إختفي هذا الكأس تماماً بدون أي أثر ، وليس هناك أدني أمل في العثور عليه ، سنشتري كأساً مطابقاً له مهما كلفنا ذلك .. بكت زوجته بحرقة والدموع تتساقط من ركني عينيها إلي ركني فمها ، وبينما كانت تمسح خديها قالت له :- أنا أبكي حظنا العاثر ، فقد كتب علينا أن نكدح طول العمر…في الصباح إتصلت نادية بجابر واخبرته أن فهمي يعاني من حمي مفاجئة ويطلب إجازة ليوم إضافي ، وافق جابر متمنياً له سرعة الشفاء .. خرج الزوجان علي الفور من منزلهما يبحثون في متاجر الذهب علي كأس من الذهب مزين بحجر من الماس الأحمر حسب ما تذكره فهمي عندما سمح له جابر برؤيته ، بعد بحث شاق من محل إلي محل عثرا علي محل مجوهرات عنده كأس بنفس المواصفات المطلوبة ، وعندما إستفسرا عن ثمنه ، أجابهم صاحب المحل :- إن هذا الكأس قطعة فنيه أصلية من الذهب والماس ولم يتبقي عندي سوي هذه التحفة ، والثمن 70000 جنيه نقدا ، سأله فهمي هل تقبل أن أشتريه بالتقسيط ؟ أجابه البائع بالنفي ، ولكن يمكنه قبول تخفيض ليصبح الثمن65000 جنيه نقداً ، عند ذلك أخرج فهمي من محفظته 5000 جنيه أعطاها لصاحب المحل وقال له :-ٍسأشتريه وأرجو حجزه بهذا المقدم ريثما أحضر لك باقي المبلغ غداً .. ذهب فهمي إلي البنك الذي يتعامل معه ، وقابل مدير البنك وطلب منه قرضاً بمبلغ 60000 جنيه تسدد علي عشر سنوات ، حسب مدير البنك قيمة الأقساط الشهرية بعد إضافة الفوائد والعمولات البنكية ، إستكمل فهمي التوقيعات المطلوبه واستلم قيمة القرض وهو لا يعلم كيف سيسددها ، ولكنه يعلم جيداً الإجراءات القانونية القاسية المترتبة علي عدم سدادها ، أسرع فهمي بتسليم باقي الثمن لصاحب محل المجوهرات ، أخيراً أصبح الكأس في حوزته ، وضعه في الحقيبة الجلدية الفاخرة مع شهادة التقدير وقدمها لجابر الذي شكره باقتضاب، وليس له أدني علم بالأحداث المؤلمة التي ألمت بفهمي .. من الآن فصاعداً كان علي فهمي ونادية أن يغيرا نمط حياتهما كلياً وتوفير نفقاتهما لأقصي حد ممكن ، بحث فهمي عن وظيفة ذات مرتب أعلي وعثر عليها في شركه بالإسكندرية ،إعتذر فهمي لجابر وقدم إستقالته متعللا بمرض زوجته وحاجتها لهواء البحر، إنتقلا الي الإسكندرية وإستأجرا شقة متواضعة بسطح إحدي العمارات ، وكان عليهما تحمل المعاناة في الصعود للدور السادس علي السلم لعدم وجود مصعد .. وبعد أن كان لنادية خادمة في القاهرة ، أصبح عليها أن تقوم بكافة الأعمال المنزلية من تنظيف الشقة وطهي الطعام وشراء الخضروات واللحوم والخبز.. وإتفق فهمي علي أعداد تقارير المحاسبة الضريبية السنوية لعدة متاجر، وتولت نادية إعطاء دروس خاصة لتلاميذ العمارة والعمارات المجاورة .. بعد عشرة أعوام من المعاناة نجحا في سداد كل أقساط القرض وبكل فوائده المتراكمة .. أصبحت نادية مجهدة ، لا ترتدي ملابس حديثة ، ولا تضع طلاء أظافر ، فقدت جمالها وبدت خشنه وصوتها مرتفع مثل النساء العوام وقالت لنفسها :- كيف يكون حالنا إذا لم يسرق الكأس الذهبي؟! وبدا فهمي متقدما في السن بشعر رأسه الأبيض وظهرت التجاعيد علي وجهه وانحني ظهره قليلا .. بعد أن إنتهت مشكلة إختفاء الكأس الذهبي وتبعاتها ، إعتزم فهمي السفر للقاهرة لزيارة صديقه جابر في مكتبه الذي دهش كثيراً لرؤية فهمي بهذا المظهر العجوز وبدا له أنه غاب ليس لعشرة أعوام بل لعشرين عاماً ، قال جابر لفهمي:- لقد تغيرت كثيراً عن آخر مرة رأيتك فيها ، رد فهمي:- لقد عانيت يا سيدي من حادثة حصلت لي بسبب إختفاء الكأس الذهبي الذي طلبت مني توصيله لمنزلك ، قال له جابر:- كيف إختفي؟! إنه هنا أمامك في حجرة مكتبي !! ، رد فهمي:- لقد سرق مني الكأس الي سلمته لي وإشتريت لك كأساً بديلا من الذهب ومرصع بالماس وسددت ثمنه من قرض بنكي مدته عشرة أعوام أنتهت الشهر ألماضي ، ظهر الانزعاج الشديد علي وجه جابر ، وقام من كرسيه وجلس إلي جوار فهمي وأمسك بيديه وقال:- يا صديقي المسكين ، الكأس الموضوع أمامك ليس إلأ نسخة مقلدة من الكأس الأصلي المصنوع من الذهب والماس الحقيقيين والموجود تحت الحراسة الالكترونية في معرض النادي ، أما الكأس الذي سرق والذي أهدي لي، فهو تقليد ومصنوع من سبيكة معدنية وطلي بماء الذهب ، والماسة ليست إلا كريستالة حمراء وسعرهما معا لا يتعدي 600 جنيهاً لا غير !!!