بقلم: محمد منسي قنديل
احتفلت اسرائيل بعيد استقلالها، الذي هو ذكرى اغتصاب فلسطين، في إحدى فنادق ميدان التحرير، الذي هو محل ميلاد الثورة المصرية، في قلب مدينة القاهرة، التي كانت قلب الوطن العربي، فكيف تغيرت الأمور لهذه الدرجة المريعة؟
شاهدت صورا وشذرات متفرقة من هذا الاحتفال، ورأيت بعضا من الوجوه المقيتة التي حضرت وشاركت في تقديم التهاني وقطع الكعكة، ولكن كلمة السفير الاسرائيلي كانت اهم فقرات السهرة، أخذ يعدد الانجازات التي حققتها دولته، وقد اسقط منها بالطبع كم قتلت من العرب ومساحة ما اغتصبت من ارض وعدد ما ارتكبت من مجازر، بدلا من ذلك ذكر الأكاذيب المعتادة عن افضال اسرائيل على البشرية، رغم أن تاريخهم مع كل اقوام البشر لم يكن إلا نوعا من الكراهية المتبادلة، تحكمها عقدة «شيلوك» الذي كان يريد رطلا من اللحم الحي، وانتهزت اوروبا الفرصة وصدرتهم إلينا ليأخذوا هذا الرطل من لحم اخوتنا الفلسطينيين ويستنزفون ما يقدرون عليه من الدماء العربية، السفير كان يبدو واثقا من نفسه، ولابد كان يتلقى ايماءات الموافقة من الحاضرين لأن معظمهم بالتأكيد ، لم يكن في عائلتهم شهيد واحد، وهو أمر بالغ الندرة.
ولكن هذه ليست اشارة لنهاية الصراع، وليست علامة استسلام، ولكن في التعامل مع اسرائيل هناك أكثر من مصر، ثلاثة على الأقل، هناك أولا: مصر الرسمية، المقيدة بمعاهدات السلام، أشد القيود ثقلا التي وضعتها مصر حول رقبتها، فقد حولتها من دولة قائدة في محيطها العربي وبين دول عدم الانحياز إلى دولة تابعة للمعسكر الغربي التي كانت ابعد ما تكون عنه، كانت الاتفاقية من وجهة نظري هي نوع من الاهانة القومية، غادرنا المعركة في منتصفها، وضحينا بالمصدر الرئيسي للسلاح، وانضمت مصر من مركز بالغ الضعف إلى معسكر الرأسمالية الغربية، تتلقى الفتات من مساعداته وتنفذ الجانب القذر من مخططاته، ولم تقتصر الاتفاقية على الجانب العسكري فقط ولكنها امتدت إلى الجانب الاقتصادي حين انتهجت مصر سياسة الانفتاح، وخضعت لسياسة السوق المفتوح وباعت كل مؤسساتها الانتاجية واصبحت تعيش عالة على ما ينتجه الآخرون فانهارت مواردها وتضاعفت ديونها، وحدث التحول الأكبر واصبحت مصر في حاجة لإسرائيل أكثر من حاجة اسرائيل إليها، ففي كل سنة يقام مزاد علني فاضح في اروقة الكونجرس حول المعونة التي تقدمها امريكا لمصر، تتعالى اصوات الاعضاء الذين يطالبون بوقفها، وتعقد الجلسات ذات الطابع الهجومي على مصر وسياستها الداخلية، مسرحية هابطة تتكر بالنمط نفسه حتى تتدخل اسرائيل أو بالأحرى منظمة «ايباك» التابعة لها لتنقذ المعونة من الالغاء، وفي كل عام لا نملك إلا مشاعر الامتنان لهذه المنظمة اليهودية المؤثرة، وحتى في مقاومة الارهاب كان علينا أن نحصل على موافقة اسرائيل حتى تصل قواتنا إلى هذه المنطقة من ارضنا التي كانت محرمة علينا.
كامب ديفيد لم تبعد مصر فقط عن دائرة الصراع ولكنها أطلقت يد اسرائيل لتلتهم كل اراضي فلسطين وتزرعها بالمستوطنات وتمارس حرب الابادة ضد أصحابها، أصبح الفلسطينيون وحدهم تماما، فريسة لكل الشرور التي تمارسها عليهم اسرائيل، وأصبح البحر المتوسط حكرا لها، تجوب فيها اساطيلها وتستزف ما فيه من حقول الغاز.
وهناك ثانيا: مصر المستفيدة، وتتمثل في مجموعة ضخمة ذئاب رجال الاعمال الذين يتاجرون مع اسرائيل، اغلبية الذين حضروا الاحتفال، زمرة تفتقد لأي رؤية وطنية حول مستقبل هذه العلاقة في ضوء متطلبات المصلحة الوطنية، يسعون فقط خلف مصالحهم الشخصية، وجاءت اتفاقية الكويز لتكون قيدا على اعناقهم جميعا، ولا يستطيعون تصدير منتجاتهم لأمريكا، إلا إذا أصبح 10% من مكوناتها اسرائيليا، فهم ملزمون طوال الوقت بالتعاون مع اسرائيل واستيراد أكثر من 100 مليون دولار كل عام لإستيراد موادها الخام.
وحتى على هذا المستوى فإن حاجة هؤلاء الذئاب إلى اسرائيل أكثر من حاجتها إليهم، فهي تستغل امتيازاتها في السوق الأمريكية لتقيم المعارض التجارية، وكانت مصر تنأى بنفسها عن المشاركة فيها، ولكن في العام الذي حكم فيه محمد مرسي وجاء الاخوان بحسهم التجاري المعهود كانوا هم من طلبوا من اسرائيل المشاركة في هذه المعارض، ومن ذلك الوقت وهذه المعارض المشتركة تقام بشكل دوري، وقد بلغ حجم التصدير من إسرائيل إلى مصر 236 مليون دولار مقابل 178 مليون دولار، قيمة ماتستورده إسرائيل من مصر، وهو أمر يدعو للخجل أن تتفوق علينا هذه الدولة الصغيرة التي اغتصبت ارضنا بالكامل، لقد تبدل الزمن بشكل فادح فبعد أن كنا نصدر لهم الغاز على مضض، اصبحنا نستقبل الغاز القادم منهم في سعادة.
وهناك ثالثا: مصر الشاعرة بالاهانة، غالبية الملايين من الشعب المصري التي تشعر أن هذا الاحتفال هو نوع من العار الذي لحق بها، وليس فقط بكل من ساهموا بالحضور، ولا الذين وقفوا عاجزين عن الاعتراض، ولكنها اهانة تتخطى الاحياء إلى كل الشهداء الذين ماتوا بالآلاف من أجل القضية الفلسطينية، اسرائيل الآن تقف وسط ميدان التحرير الذي أصبح رمزا لقوى الحرية لتخرج لسانها الطويل لمصر ولبقية الدول العربية، لكل الذين اختاروا أن ينسوا عدوهم الرئيسي ويتفرغوا للخلافات والحروب العربية – العربية.
بخلاف كل الذين سبقوا، والذين هم في حاجة لإسرائيل، فإن الشعب المصري ليس في حاجة لها، بل هي التي في اشد الاحتياج إليه، في حاجة لاعترافه بها حتى يضفي الشرعية على وجودها، وفي حاجة إلى اسواقه لتنمو وتزدهر، وفي حاجة لإقناعهم أن ينجبوا اطفالا خانعين مستسلمين لا يفكرون في محاربتها ذات يوم، هذا هو الهدف الاسمى لإسرائيل، وهذا هو هدفها من اقامة هذا الاحتفال، توجيه رسالة للأجيال القادمة، ولكن هذه الرسالة لن تقنع أحدا لأن آلة القتل الاسرائيلية لم تتوقف، ولا أظن انها ستتوقف إلا بعد ان تفني آخر فلسطيني يعيش على الارض الفلسطينية، اسرائيل ستبقى هي العدو الاساسي، لا الشيعة في ايران، ولا الاتراك عبر الحدود، ولا اخوتنا في قطر، ولا حتى اثيوبيا التي تشاكسنا في مياه النيل، كل هذه اختلافات سياسية عابرة، تشويش من اجهزة الاعلام وخدمة اهداف قصيرة الأمد، ولكن يبقى أن اسرائيل هي العدو الأوحد والحقيقي والمستمر على عداوته، كل الذين لم يحضروا هذا الاحتفال المشبوه يعرفون ذلك، وسيأتي يوم الحساب لكل الذين شاركوا في هذه المهزلة.