بقلم: تيماء الجيوش
بالمبدأ تعتمد المجتمعات الإنسانية على القانون في نقل ما تريد اجتماعياً ، اقتصادياً، سياسياً، ثقافياً من حيز نظري إلى حيز عملي، و هذا ما يعني أن أي قرار قضائي هو نتاج مجتمعي بالدرجة الأولى. تقوم التشريعات بحماية المصالح الاجتماعية و الاقتصادية و تمنح الأفراد المساحة باللجوء إلى القضاء لحماية حقوقهم التي اقرها القانون من حقوق الإنسان، العمل، الأسرة، التعليم ، الصحة واللجوء ، ولعل من أهم المسائل الحيوية للقضاء هو تلك الصلة ما بين المجتمع و القيم الإنسانية. مع ازدياد نطاق عمل القضاء، ازداد تأثيره نوعاً وكماً على مستويات عدة سياسية، اجتماعية ، سياسية و أخلاقية. و على اختلاف التطور التاريخي للقضاء بقيت مهمته الرئيسة حل النزاعات مع اعتماد المعايير التي أوجدها المشرع و القانون في فروع تشريعية شتى لا سيما اللجوء . واللجوء هو حديث لا يمكن أن ينتهي ، و لا يمكن أن يهدأ إلا ليعود و يثور ثانية و إن كان بدرجات متفاوتة تفرضها عوامل عديدة . على أية حال هو حالة مدنية إنسانية صرفة ترتبط بحالة طارئة ومثالها الحرب، وفي تعريف اللاجئ فقد أقرت مفوضية شؤون اللاجئين لدى الأمم المتحدة تعريفاً للاجئ في اتفاقية عام ١٩٥١ .
اعتمدت على هذه الاتفاقية القوانين الدولية في تدوين و سنّ معايير قانونية و قضائية لتحديد من هو اللاجئ و آلية حمايته. بالعودة إلى تعريف اللاجئ ومن خلاله فهو أي فرد لديه خوف من التعرض للاضطهاد المبرر و ذلك لأسباب تتعلق بالعرق أو الدين أو الجنسية أو الانتماء إلى فئة اجتماعية مُعيَّنة أو رأي سياسي. بشرط أن يكون خارج البلد الذي يحمل جنسيته و يخشى على نفسه أو أسرته من الاضطهاد فيه مما يحمله على عدم طلب الحماية من ذلك البلد ، و كذلك الحال عندما لا يحمل الفرد الجنسية أو ليس لديه جنسية و كان خارج بلد إقامته السابق و بالتالي هو غير قادر أو ليس لديه الرغبة بالعودة نظراً لحالة الخوف التي تتملكه.
تماشت مع هذا التعريف قوانين وأحكام قضائية ، لكن هناك ما اختلف نوعياً وأصبح سابقة قضائية و منها ما أقرته محكمة العدل الأوروبية مؤخراً حول حق اللجوء و منحه لنساء أفغانيات. تأتي أهمية هذه السابقة القضائية من اعتمادها الجندر أساساً للحكم في قضية لجوء. و محكمة العدل الأوروبية European Court of Justice والتي مقرها لوكسمبورغ هي جزء من النظام القضائي الأوروبي، هي محكمة عليا من أولى مهامها رعاية الحقوق الواردة في المعاهدات و تنفيذها كما وردت لدى الاتحاد الأوروبي وًمواثيقه، تفسير القوانين لا سيما حين تعارضها ، أي أنها وسيلة قضائية للفصل في النزاع القانوني والأحكام القانونية الصادرة عن المحاكم الأوروبية .
بتاريخ الرابع من أكتوبر ٢٠٢٤ صدر قراراً من محكمة العدل الأوروبية يقضي بان الجنس والجندر سبب كافٍ لمنح حق اللجوء للنساء . جاء هذا رداً على دعوى قضائية تقدمت بها نساء أفغانيات طالبن بالحماية الدولية في النمسا ، امتدّت دعواهن من العام ٢٠١٥ إلى العام ٢٠٢٠ ، و لصدور القرار القضائي الرسمي من النمسا كان لا بد من اخذ رأي محكمة العدل الأوروبية. اعتمدت محكمة العدل الأوروبية في حيثيات قرارها على الاضطهاد كفعل يقع على النساء، و انه هو الذي يُشكل السبب الأول للجوء ، و إن ما تقوم به طالبان من تنفيذها من قوانين تمييزية و تدابير إدارية توفر الأركان المادية لفعل الاضطهاد ، ومن ثم تعرضت إلى العلاقة السببية والمباشرة لهذا الاضطهاد على النساء و تأثرهن به هل هي موجودة أم لا؟ كانت الإجابة عن هذا العامل واضحة و جلية من حيث أن الحركة تمنع مشاركة المرأة السياسية، العنف ضدهن بأنواعه غير معاقب عليه قانوناً، ليس لهن الحق بالعمل، حقوقهن الأسرية من زواج قسري إلى زواج أطفال مباح، التعليم غير مسموح به لهن، حركتهن مقيدة وليس للنساء من وسائل قانونية يلتمسنها للحماية ، و هذا لا ينال عدد محدد من النساء أو مجموعة من النساء بل يقع على عاتق نساء عموم افغانستان.
برأي القضاء أن هذا الاضطهاد مستمر غير مُجزأ و يخلق حالة عامة تنال من الكرامة الإنسانية . ثم عرجت المحكمة في قرارها على شقٍ مفصلي يتعلق بإثبات الاضطهاد، وأكدت من أن الاضطهاد قائم و مُثبت ، و يتم بمجرد عودة النساء إلى أفغانستان، و خضوعهم للقوانين التمييزية بسبب جنسهن كنساء ، و أن هذه القوانين التمييزية هي من الخطورة بمكان ، و هي تطابق تعريفاً جرم الاضطهاد الذي نصّت عليه اتفاقية جنيف والذي يمنح حق اللجوء لطالبه. سبق هذا القرار مواقف دول مثل السويد وفنلندا والدانمرك على منح حق اللجوء لنساء أفغانستان. لكن هذا القرار الأخير الصادر عن محكمة العدل الأوروبية يُعدُّ سابقة قضائية ، و هو يؤسس لمرحلة قادمة تقوم بتقييم فعل الاضطهاد حين يتعلق بالنساء و درجة الحماية الدولية التي تناسبه. جاء القرار في سياق قضايا الهجرة والتي تناولتها محاكم و هيئات قضائية مماثلة ، لكن هذا القرار الأخير جاء ليقوم بتحليل مختلف و أزال أي التباس حول الاضطهاد عندما يكون عاماً و موجهاً من قبل السلطة ضد النساء تحديداً .
هذا القرار يؤسس ليس على صعيد دولة فحسب بل على صعيد دول الاتحاد الأوروبي قاطبة يؤسس قاعدة قانونية للمحاكم و الأجهزة القضائية تُمكنها من لعودة إليها فيما يماثلها من ملفات لجوء و حق النساء مستقبلاً .قاعدة قانونية واضحة تضعها محكمة العدل الأوروبية لقضايا مشابهة لها في المستقبل. بدأ الأمر عندما أرسلت المحكمة في النمسا تطلب رأي محكمة العدل الأوروبية في طلب اللجوء المنظور أمامها ، فكان الرد بحكمها انه بالنسبة لهاتيك النساء يُكتفى بأنهن نساء وإنهن ينتمين بجنسيتهن إلى أفغانستان .
الآن على المحاكم في النمسا الاقتداء بهذا القرار و تنفيذه باعتباره صدر من محكمة أعلى أي محكمة العدل الأوروبية. على الصعيدين التشريعي و السياسي و دون أي التباس هذا الحكم يؤكد حقيقة أن نساء أفغانستان تُنتهك حقوقهن التي هي جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان، تنال من كرامتهم ، وان عودتهم إلى بلادهن يعني خطراً أكيداً. خطوة صغيرة في دعم نساء أفغانستان و الألف ميل تبدأ بخطوة.
أسبوع سعيد لكم جميعاً.