بقلم: نعمة الله رياض
يمكننا القول بأن الجسد أو العضو الحي قد احسن تصميمه عندما يكون له صفات هي مما يبنيه مهندس ذكي حتي يصل لغرض معقول كالطيران أو السباحة أو الأكل أو التكاثر، أو علي نحو أعم ما يعمل علي البقاء والنسخ المتكرر لجينات الكائن الحي ، ويمكن للمهندس أن يتعرف علي الشيء الذي قد تم تصميمه لهدف ما .. سنقدم مثالاً حقيقياً هو لجهاز السونار( جهاز الكشف عن مواقع الأشياء بواسطة انعكاس أمواج الصوت) عند الخفافيش ، فللخفافيش مشكلة هي كيف تتبين طريقها في الظلام ، فهي تصطاد ليلا ، ولا تستطيع استخدام الضوء للعثور علي الفريسة وتجنب العقبات .. قد نتسائل لماذا لا تغير الخفافيش عاداتها فتصطاد نهاراً ؟ لكن اقتصاد النهار مستغل بالفعل وبشدة بواسطة مخلوقات اخري كالطيور، لذلك سوف يحبذ الإنتخاب الطبيعي استمرار الحياة للخفافيش التي تحاول الصيد ليلا .. وقد توصلت مجموعات الخفافيش المختلفة الي استخدام السونار بطرق مختلفة جذريا ، وقد ابتكرتها كل علي حدة وبصورة مستقلة ومبكرا بملايين السنين وبطريقة ينبهر لها المهندسون اعجابا ، بينما اخترع مصممو الأسلحة نظام السونار وذلك حديثاً أثناء الحرب العالمية الثانية .. ثمة نوع من خفافيش الفاكهة يسمي الروزيتاس تتبين طريقها في الظلام المطلق باستخدام نوع من السونار اكثر بدائية مما تستخدمه الخفافيش الأصغر التي الفناها ، وتعتمد علي قياس أصداء الصوت التي تحدثها طرقعات صوتية وقياس الفترة الزمنية بين كل طرقعة و صداها ، والخفاش من نوع ميوتس الصغير البني ، سوف نسمع اثناء ترحاله في مهمة روتينية طرقعات متتابعة حوالي عشر طرقعات في الثانية وهي تقارب سرعة مدفع رشاش من طراز برن .. مشكلة اخري واجهت المهندسين في الرادار ووصلوا الي حل سموه رادار الإرسال والتلقي ، يتم فيها ارسال نبضات قوية جداً الي الهوائيات التي تنتظر الأصداء الضعيفة المرتدة ، ويتم فصل الهوائي المتلقي مؤقتاً وذلك بالضبط قبل ان تحين لحظة ارسال النبض التالي ثم يعاد تشغيل الهوائي ثانية في الوقت المناسب لتلقي الصدي .. والخفافيش أنشأت تكنولوجيا تحويل (الإرسال/ التلقي) منذ ملايين السنين التي تسبق نزول اسلافنا من فوق الأشجار .. إن السمع بالصدي عند الخفافيش هو مثال نختاره لإثبات نقطة التصميم الجيد، فالحيوانات لها المظهر بانه قد صممها فيزيائي أو مهندس بارع ، ولكن ليس ما يدل علي ان الخفافيش تفهم النظرية بنفس المعني التي يفهمها الفيزيائي أو المهندس .. إن الفرض الذي افترضه الأسقف بالي ، وهو إن الساعات الحية هي حرفياً قد صممت وبنيت كما هي ، بالمقابل إن فرضنا الحديث هو أن المهمة قد تمت بالإنتخاب الطبيعي غير الهادف وفي مراحل تطورية تدريجية .. ويجب القول ان هناك خلط بين الإنتخاب الطبيعي والعشوائية ، ان الطفرة عشوائية ، اما الإنتخاب الطبيعي فهو علي العكس تماماً من العشوائية، وليس من الحق ان كل جزء ضروري لنجاح الكل ، ووجود نظام بسيط بدائي نصف مكتمل لعين او اذن او لنظام تحديد الموضع بالصدي ..الخ هو افضل من لاشيء ، ومن دون عين تكون اعمي ، وبنصف عين يمكنك ان تكشف الاتجاه العام لحركة حيوان مفترس ، وقد يكون في هذا الفارق بين الحياة والموت .. إن الأشياء الحية علي درجة من قلة الإحتمال وجمال التصميم بحيث لا يمكن ان تتكون صدفة ، ولكنها ، حسب داروين ، تكونت بتحولات تدريجية خطوة بخطوة من كيانات أولية بالغة البساطة ، وكل تغير متتالي في العملية التطورية التدريجية هو من البساطة بالنسبة لسابقه بما يكفي لإمكان أن ينشأ صدفة ، علي أن التسلسل الكلي للخطوات التراكمية يتكون من اي شئ الا ان يكون عملية من الصدفة وذلك اذا اعتبرنا تركب المنتج النهائي بالنسبة لنقطة الإبتداء الأصلية ، فالعملية التراكمية يوجهها البقاء الغير عشوائي .. إذا مشينا علي شاطئ البحر نلاحظ ان قطع الحصي ليست منظمة بطريقة عشوائية ، فالقطع الأصغر تتواجد في مناطق منفصلة علي طول الشاطئ ، والقطع الأكبر في مناطق أخري .. نستنتج من هذا أن قطع الحصي يتم فرزها أو انتخابها بواسطة قوي فيزيائية عمياء هي في هذه الحالة امواج البحر ، والأمواج ليس لها أهداف ولا عقل مرتب ، وليس لها عقل علي الإطلاق ، فهي تلقي الحصي بنشاط علي الشاطئ ، وتستجيب قطع الحصي الكبيرة والصغيرة وبذا تنتهي إلي مستويات مختلفة ، لقد نشأ من اللاترتيب – ترتيب صغير لم يخططه عقل! مثال آخر هو الثقب ، فالأشياء الأصغر من الثقب هي وحدها التي يمكنها المرور منه ، وقد استغل الإنسان منذ زمن بعيد هذه القاعدة اللاعشوائية في صنع الغربال .. والنظام الشمسي هو مجرد غربال طبيعي آخر ، فيجب علي كل جرم يقترب من الشمس ان يتحرك بسرعة اكبر حتي يتغلب علي جاذبية الشمس ويظل في مدار ثابت ولكل مدار له سرعة واحدة فقط .. والغربلة علي هذا المستوي من البساطة غير كافية لتفسير المقادير الهائلة من النظام اللاعشوائي الذى نراه في الأشياء الحية ، فمثلا جزئ الهموجلوبين وهو مكون صغير جدا من تركيب الجسم الحي ، يتكون من اربع سلاسل من الاحماض الامينية ، لننظر إلي سلسلة واحدة نجد انها تتكون من146 حامضا امينيا ، وهناك 20 نوع مختلف من الاحماض الامينية ، وتحسب نسبة الفرص ضد العثور علي الهيموجلوبين بالصدفه هو واحد يتبعه 190 صفراً !! لذا فمن الواضح ان الغربلة البسيطة لن تكون قادرة علي توليد النظام الموجود في شئ حي فالغرابيل البسيطة هي امثلة للإنتخاب بخطوة واحدة، أما التنظيم الحي فهو نتاج الإنتخاب التراكمي…إذاً الفارق الرئيسي بين الإنتخاب بخطوة واحدة والإنتخاب التراكمي ،أن الكيانات في الإنتخاب بخطوة واحدة يتم فرزها مرة واحدة ونهائية مثل الحصي في المثال السابق ، أما الكيانات في الإنتخاب التراكمي فإنها تتكاثر ، بمعني ان نتائج عملية الغربلة تلقم لغربلة تالية هي بدورها تلقم ..الخ وتتعرض فيها الكيانات إلي الإنتخاب بالفرز عبر اجيال كثيرة في تعاقب ، والمنتج النهائي لجيل الإنتخاب هو نقطة البداية لجيل الإنتخاب التالي .. وهكذا .. إذاً هناك فرق كبير بين الإنتخاب التراكمي ( حيث يستخدم أي تحسين مهما كان صغيراً كأساس للبناء في المستقبل) ، والإنتخاب بخطوة واحدة حيث كل محاولة جديدة هي محاولة حديثة ..ولو كان التطور يعتمد علي الإنتخاب بخطوة واحدة لما وصل لشئ ، أما إذا كان هناك طريقة وفي ظروف ضرورية للإنتخاب التراكمي بقوة الطبيعة العمياء ، فإن النتائج تثير الإندهاش .. هناك البعض الذين يؤمنون ان الداروينية تفسر النظام الحي بلغة المصادفة وحدها (الإنتخاب بخطوة واحدة)، والإعتقاد بأن التطور الدارويني عشوائي هو اعتقاد زائف ، فالمصادفة هو عنصر ضئيل في الوصفة الداروينية، أما أهم عنصر لها فهو الإنتخاب التراكمي الذي في جوهره لا عشوائي ..
(يتبع)