بقلم: إدوار ثابت
هذا حديث أحداثه فعلية ، أدونه كما هو من غير قلة أو كثرة ، وبلا أفتعال أو تكلف ، وإن كنت قد سعيت فيه إلى تفاصيل كثيرة أحياناً وقليلة أحياناً ثانية ، وأسهبت فيه بعض الإسهاب فذلك لأني رأيت أن هذه التفاصيل وهذا الإسهاب هما الأساس الذي يوضح أهداف هذا الموضوع ، ويبرز مضمونه.
ألتحق بكلية من الكليات العملية على مضض منه ، فقد كان أبوه وأمه لا يفضلان له أن يدرس دراسة نظرية على الرغم من أن هواياته حينذاك ومنذ صغره كانت مختلفة ، وكان المجال الذي يعمل به والده يقترب بعض الشئ من دراسات هذه الكلية ، ولهذا بدا راضياً عنها ، وأحثه على الإلتحاق بها ، أما هو فكانت تستهويه الآداب والفنون . ويرغب في دراستها ولكنه لم يكن يملك إرادته حينذاك . فكان في تلك الفترة بل وقبلها قد قرأ ويقرأ كثيراً من الأدب والفن ،فبدأ يقرأ القصص والروايات ، ويطلع على الصحف والمجلات ، ثم أخذ ينتقي الكتب التي تبحث في النواحي الأدبية والفنية ، فقرأ من الأدب رغم صدره تلك الكتب التي تصدر عن الأدباء القدماء ، وكان أكثر ما يستهويه منها الكتب التي يكتبها طه حسين فأشترى منها معظم مؤلفاته ، يقرؤها في أستمتاع لا يضاهيه ما يقرؤه لأديب غيره ، وبدأ في تلك الفترة ينظم شعراً لم يرض عنه ‘ فسعى إلى أن أطلع على قواعده وعرف بحوره العربية فكتب الكثير منه . وكان تعمق أمه في هذه الآداب والفنون تعمقاً يشمل ما تقرؤه في الصحف اليومية والكتب الدينية ، وينحصر في الأغاني الراقية والبرامج المختلفة التي تسمعها من الإذاعة ، وقد سعت فالحقته بمدرسة خاصة من مدارس اللغات حتى يتعلم تعليماً أفضل . وفي هذه المدرسة التي أنهى بها دراسته الثانوية درس الأدب الفرنسي في عصوره القديمة والحديثة ، فقرأ بعض قصص فولتير وبعض حكايات لافونتين ، وعرف شعر لامارتين وأعمال راسين ، وأطلع على كورني وموليير ، ودرس رواية كولومبا Colombia لبروسبير ميريميه التي أشتهر بها مع رواية كارمن . ودرس رواية بلا عائلة Sans famille للكاتب هكتور مالو ، ودرس مع ذلك اللغة الإنجليزية وإن كانت أقل أستفاضة من الفرنسية . أما الفنون فكان يحب كل ما ينشأ عنها ، وتروقه الأغاني المختلفة ، الجزلة في ألفاظها والطربة في ألحانها كما كانت تعجبه الموسيقى الشرقية والغربية الكلاسيكية ، فكانت بالمدرسة التي يدرس بها فترة تمارس فيها بعض الهوايات منها الأشغال اليدوية والرسم والموسيقي والمحاسبة فرغب في الموسيقى فسمع منها شهر زاد لريمسكي كورساكوف ، وبعض سيمفونيات بتهوفن ، ولكن أكثر ما كان يستهويه من هذه الفنون فن السينما الذي يبدو قد أخذه عن أبيه من غير أن يدري ، فقد كان أبوه يحكي له عن أفلام محمد عبد الوهاب التي كان يشاهدها في صباه مثل الوردة البيضاء ، ودموع الحب وغيرهما وينصت معها إلى أغانيه مثل يا وردة الحب الصافي والنيل نجاشي وغيرهما ، فأحب أغاني محمد عبد الوهاب وألحانه ، ثم أحب فن السينما والأفلام السينمائية بوجه عام فلا يمر الأسبوع إلا ويرى فيلماً منها ، وكانت هناك دارمن دار السينما الصيفية قريبة من البيت الذي يملكونه بنهاية حي شبرا القريبة من النيل . وكان يحب دائماً أن يذهب ليشاهد ما تعرضه من الأفلام ولاسيما في العطلات المدرسية ، وكان لايزال صغيراً يتردد أبوه ويخشى عليه ان يذهب بمفرده فيصر هو يستأذنه ويستعطفه فإذا أبوه يأخذه إلى دار السينما ويشتري له بطاقة العرض ويتركه فما أن ينتهي العرض حتى يرى أباه ينتظره أمام باب السينما ويصحبه إلى البيت ، فأضحى هذا الفن هو الفن الذي يحبه بل ويعشقه من بين الفنون كما لم يرقه ويستهويه فن غيره يليه الموسيقى ، وظل هكذا حتى كبر وألتحق بدراسة في معهد يطيح له مع ثقافته التي أمتلكها فأخذ يكتب بعض النصوص السينمائية ويعرضها على التلفزيون وشركات الإنتاج فعلى الرغم مما كان يكتب عنها وعن قيمتها وتميزها من الذين يقرؤونها ويجيزون تنفيذها ولكنه يرى من العنصرية والتحيز من المسئولين عن تنفيذها ما يعرقلون بهما أنتاجها .أما فن السينما فكان أكثر ما يروقه فيه ليس التمثيل أو المونتاج أو غيرهما من الفنون التي تشملها وإنما فن الإخراج ، فما أن يعرض فيلم من الأفلام حتي يبحث فيه ومنذ صغره عمن أخرجه فما أن يراه حتى يتفحص كيف نفذ المخرج مشاهده وكيف قاد أداء الممثلين الذي يؤدون شخصياتهم فيه .
وعلى الرغم من كل ذلك ، لم يُبد رغبته في أن يدرس الأدب أو الفن ‘ فلم يكد يملك رأيه في تلك الفترة أو خجلا وخشية من أن يبديه بل لم يفصح حتى بينه وبين نفسه عن هواياته تردداً أو جهلاً ولذا شعر بالضيق من تلك الكلية العملية التي ألتحق بها ومن المواد الدراسية التي لم تستهويه فيها ، والتي لاحظ فيها شيئاً مختلفاً عما يرغب فيه ، بل وأحياناً كان ينفر من بعضها ويضيق حتى بأسمائها ، فأتجه إلى تلك الكلية وكأنه غريب عنها أوهي غريبة عنه ، يرى فيها ذلك التناقض بين ما كان يدرسه بالمدرسة وبين ما يدرسه بها ، ويشاهد ذلك الأختلاف بين زملاء بالمدرسة مرفهين يتحركون ويتحرك معهم في نظام ، ويتحدثون ويتحدث معهم في رقة وذوق وأحياناً بالفرنسية وبين طلاب لم يتحدث بل لم يتعلم منهم لغة من اللغات ويسلكون سلوكاً شعبياً محضاً يتحركون فيه في هرج ، ويتحدثون بعضهم في غلظة وخشونة ، وبعضهم في لهجة هي إلى الريفية أدنى منها إلى المدنية بل وأحياناً أشبه بالسوقية كلهجة تلك الفئة من عوام الناس الذين يتناقشون فيها في لامبالاة ، وبلا حرص على ما يقولون من ألفاظ ، وكأنما هي فقط اللهجة التي يملكونها والتي لايعرفون إلا التحدث بها . ولكن بعد فترة لم يأبه بذلك ، ولم يرفه عنه وعن شعوره الا ارتباطه ببعض الأصدقاء يحضرون المحاضرات معاً ويتغيبون عنها معاً ، ويجلسون بمقصف الكلية يتحدثون ويمزحون كما يحلولهم ، فيأتون إلى الكلية وينصرفون منها كما يبتغون ، بل وأحياناً يتنزهون خارجها في العطلات عندما يشعرون برغبتهم في التنزه والمرح . والحق فهو لم يرسب طوال الأربع سنوات التي أمضاها بالكلية ، ولم يرسب فيها أصدقاؤه ولكنه مع ذلك لم تكن درجاته في المواد التي يدرسها متميزة فلم يكن يطلع منها إلا ما يمكنه من النجاح فكان يحصل في أغلبها على درجة المقبول ، إلا القليل منها والتي هي أقرب إلى المواد النظرية يحصل فيها على درجات الأمتياز أو الجيد جداً أو الجيد ، ولهذا كان تقديره في السنوات الثلاث الأولى هو المقبول . أما في السنة الرابعة وهي سنة التخرج وكان قد أرتبط بالكلية وبما حولها فيبدو أن هذا الأرتباط قد حمسه وحثه دون أن يدري على أن يطلع بعض الشئ على ما يدرسه أو رغبة منه في النجاح فأنتظر نتيجتها التي لم يكن يبتغي منها غيره ليفرغ من تلك الدراسة التي أضطر إليها رغماً عنه وبلا تحمس لها، فإذا هو يرى أن تقديره العام هو الجيد فيفرح بهذه الدرجة فقد أرضت نفسه وشعر منها بشئ من الفخر ليس غيره لحصوله على هذا التفوق من تلك الكلية التي لم تكن به رغبة قوية أو قليلة في الدراسة بها على الرغم من أن الكثيرين من الطلاب يهنِؤون بهذه الدرجة بل يبتغونها فهي تتيح لم يرغب منهم في أن يستكمل دراسته أن يتقدم للحصول على درجة الماجستير ، ثم إلى ما يليها ولكنه لم يرغب في مثل ذلك أو في أكثر مما حصل عليه وإنما كان فرحه هو أنتهاءه بهذا التفوق البسيط في دراسته في تلك الكلية من غير أن يرسب فيها مثلما يرسب بعض الطلاب . ولكن في السنة الرابعة ، وفي بدء الفصل الدراسي منها حدث لصديق من أصدقائه ما أقلقهم ، فكان الدرس الأول في ذلك اليوم هو محاضرة عملية ، يتجه الطلاب فيها إلى صالة المعمل ليعملوا ما يشرحه لهم من يشرف عليهم ، وكان دائما لا يشرف على الطلاب في الدروس العملية أساتذة الكلية ، وإنما يحضر المعيدون الذين يوضحون للطلاب ما يفعلونه من هذا الدرس ، فحضرت إلى قاعة المعمل معيدة كانت المرة الأولى التي يرونها فيها ، يبدو قد ألتحقت في أول هذا العام للعمل بالقسم الذي يدرسون به ، فبدت عليها طيبة بالغة تحدثت فيها بأدب جم فشرحت الدرس الذي عليهم أن يفعلوه . وبدأ يعمل ، ويعمل أصدقاؤه ولكنهم ينظرون فإذا صديق لهم يلوح عليه الأرتباك والقلق يتحرك مرة في تعثر ومرة في سرعة حتى ينصرف وكأنما يحاول أن ينهي عمله وينصرف جرياً فيتطلعون إليه ونحوه يسألونه بايماءاتهم واشاراتهم عما به فلم يفهموا منه شيئاً إلا اشارته إليهم بيده أن يستأنيهم حتى يفرغ من عمله فينظرون إلى بعضهم في حيرة لعلهم يعرفون ماذا حدث له ولكنهم لم يدركوا ماذا يلم به ، وما المبرر لارتباكه وقلقه ، وإذا هو بعد فترة قليلة ينهى عمله ويترك ورقته أمام مقعده ويهرع منصرفاً فما أن يدنو من أماكنهم حتى يستوضحوه عما به ولكنه لم يستطع أن يفصح لهم عن شئ إلا أن ينتظرهم بساحة الكلية. وينتهون من عملهم ، ويهرعون إلى الساحة في سرعة فإذا هو قد جلس على مقعد من المقاعد ، فانحنى قليلاً ينظر فيه إلى الأرض وبدا عليه القلق والأضطراب ، فما أن يسألوه حتى يوضح لهم تعرضه لمشكلة كبيرة ، فيحثونه على أن يفصح لهم عنها فيقول لهم : لقد أتى اليوم إلي الكلية بسيارة من السيارات العامة تشاجر فيها مع إمرأة تحدثت فيها إليه في شدة فأشتد عليها رغماً عنه لأعتقاده بخطئها وعندما ناقشته تحدث إليها في شدة لاتقل عما فعلت بل زادها انفعاله وتأثره ، فما أن يدخل إلى قاعة المعمل حتى يرى أن تلك المرأة هي هذه المعيدة التي تشرح لهم الدرس العملي . فما أن يسمعوا منه ذلك حتى يبهتوا ولكنهم على الرغم من قلقهم مثله ، يخفون عليه بهتهم وقلقهم حتى لا يفزعوه ولكنه يوضح لهم خشيته من أن المعيدة يمكنها أن تتحداه وتعطيه درجات ضعيفة يرسب بها في تلك المادة فيهونون عليه في أن أوراق الإجابة تكون سرية لا يستطيع المدرس أن يعرف منها أسماء الطلاب ولكنه يؤكد لهم كما يعرف ويعرفون مثله أن الدروس العملية تتضح فيها الأسماء ولهذا فهو يخشى ويقلق ويحتار ماذا يفعل . وكان هذا الدرس العملي كل أسبوع ، فما أن يمر الأسبوع ويأتي يوم المحاضرة العملية حتى يزداد قلق صديقهم وتوتره يخشى بهما من أن يحضر المحاضرة بل يمتنع عنها ، ولكنهم يهدئونه ويدفعونه دفعاً إلى الحضور فيتجهون إلى قاعة المعمل وتقبل المعيدة تشرح لهم الدرس ولازال الأضطراب يبدو على وجه صديقهم وعلى حركاته ، فما أن تفرغ منه حتى تتركهم ليفعلوا ما عليهم أن يفعلوه ولكنها تتجول بين الطلاب لتتفحص عملهم ، فلم يغضوا أبصارهم عنها وعن صديقهم وإذا هي بعد فترة قليلة تقترب في تحركها منه ، وتدنوه نحوه فتستقر إلى جانبه فينتصب من مقعده وقد لاح عليه الخجل والتوتر فتشير إليه أن يجلس فيتحدثان حديثاً خافتاً قصيراً لم يسمعوه بدا وكأنه يعتذر إليها من غير أن يقوى على التطلع إلى عينيها ، ولكنها تبتسم له وتربت على كتفه بيدها في هدوء ورفق أبتسموا له وأحسوا منه شيئاً من صفاء المشكلة وهدوئها . وينتهون من عملهم ويهرعون إلى ساحة الكلية ليعرفوا منه ما حدث بينه وبين المعيدة ، فيبتسم إليهم وكأن حملاً قد زال عن عاتقه وعن نفسه ، فيوضح لهم أن هذه المعيدة طيبة القلب ومتواضعة برغم منصبها ، أعتذر لها وأسف عما بدا منه نحوها رغماً عنه فتقول له لقد قبلت أعتذاره بل وتغاضت عنه وسامحته على ما فعل وكأن شيئاً لم يكن فهى تعرف أن زحام السيارات العامة يدفع الناس إلى تصرف يبدو منهم بلا وعي ورغماً عنهم ، بل قد يندمون عليه ، ولكنه يوضح لها خشيته من أن يؤثر ما حدث منه على درجاته ونجاحه في هذا الدرس فتؤكد له أن لا يخشى فهي لا تربط بين العلاقات الشخصية وبين أمانتها في عملها . ومن الحق أن القليل من الأساتذة بل النادر منهم من بهم هذه الخصال ويأتي اليوم الذي تعلن فيه نتيجة البكالوريوس فينجح هو وينجح أصدقاؤه ومعهم صديقهم هذا بل ويحصل في تلك المادة – التي كان يقلق من أن تتلاعب في درجاتها هذه المعيدة ويخشى أن يرسب فيها – على درجة جيدة لم يكن يتوقعها .