بقلم: نعمة الله رياض
عاش الشقيقان صابر وصبحي في مدينة أسيوط عاصمة الصعيد ، لم يبخل عليهما والدهما في نفقات التعليم رغم ضيق ذات اليد ، تخرج صابر من كلية الطب ، ونال صبحي إجازة الحقوق ، إجتاز صابر سنة الإمتياز وعين في مستشفي حكومي في مدينة نائية بالقرب من صحراء أسيوط ، ولم يرضي صبحي أن يشغل وظيفة حكومية رشح لها ، وفضل التدرب في مكتب محامي معروف بأسيوط .. مرت الأيام بوتيرة بطيئة ، بلا أمل في تحسن دخلهما الذي لا يكاد يغطي مصاريفهما ، ناهيك عن توفير أي قدر من المال لمجرد التفكير في الزواج وتكوين أسرة .. وللعمل علي تحسين دخلهما ، إلتحق صابر بعيادة تعمل في تخصصات مختلفة يديرها طبيب معروف ، علي أن يستقبل المرضي في تخصصه مرتين فقط في الأسبوع ، لإتاحة الوقت لغيره من الزملاء أن يعملوا ، بينما إختار أخيه صبحي أن يفتتح مكتباً مستقلاً للمحاماه معتمداً علي خبرته الكبيرة التي إكتسبها من عمله لدي المحامي المعروف .. وبالرغم من مشاغلهما وإرتباطات أعمالهما ، حرص الشقيقان علي الإحتفاظ بعلاقتهما الوطيدة مع والديهما ، فكانا يقضيان معهما وقتاً ليس بالقليل .. وهكذا سارت بهما الحياة إلي أن حدث ما لم يكن في الحسبان ..
فذات يوم زار عميل من عملاء صبحي المحامى مكتبه ، وكان رجل أعمال متقدم في العمر ، وكان علي علاقة وثيقة بصبحي ، وكان أعزب ويعمل منفرداً في مكتبه ، قال لصبحي :- يعلم الله أني إخترتك لتكون كاتماً لأسراري ومن يحافظ علي مصالحي ، وقد جئت لك اليوم ومعي هذه الحقيبة وبها خمسة ملايين من الجنيهات نقداً ، كنت احتفظ بهذا المبلغ دائماً في منزلي ولا أودعه في البنك الذي به حسابي لأني أحتاج دائماً لسيولة نقدية لسداد متطلبات تجارتي ، وتعاقداتي .. سأله صبحي :- وماذا تطلب مني لإقدمه لك؟ – أطلب منك أن تحتفظ بهذه الحقيبة في مكان آمن عندك لمدة قصيرة من الزمن ، ريثما أجري فيه عملية جراحية في القلب المفتوح وحتي تنتهي فترة النقاهة ، وسأدفع لك الف جنيها عن كل يوم تحتفظ فيه بهذه الوديعة طرفك .. وافق صبحي بعد تردد علي طلب العميل مع وعد بزيارته يوم الجراحة والأيام التالية خلال فترة النقاهة .. نجحت الجراحة ولكن حالة الرجل كانت حرجة مما إستدعي نقله للعناية المركزة ، ثم تدهورت حالته أكثر ، ولم يمضي سوي ستة أيام من تاريخ الجراحة حتي فاضت روحه .. تولي صبحي مع أخيه صابر إستخراج شهادة الوفاه وتم الدفن .. لاحظ صبحي أنه لم يتواجد في الجنازة أحد من أقارب الرجل أو معارفه ، فتولي صبحي إصدار إعلام وراثة .. إستدعي صبحي أخيه صابر وقال له :- مضي اكثر من شهر علي صدور إعلام الوراثة ولم يتقدم أحد للقيد فيه . لكن إدعي رجل أعمال كان يتعامل مع الفقيد أنه أقرضه سبعة ملايين دولار أمريكي للإشتراك معه في عملية إستيراد قطع غيار سيارات وقدم إيصال إستلام المبلغ ، وعند إطلاعي عليه ساورني الشك في صحة توقيع الفقيد ، وعندما صارحته بشكي ثار وهدد بإبلاغ الشرطة .. ساد الوجوم وجه الشقيقين ورفع صبحي عينه إلي أخيه وقال له :- بماذا تنصحني لأفعل وقد ترك الفقيد هذه الأمانة في عنقي ، وها هم اللصوص يحومون ويتربصون بتركته ، رد صابر:- أري ان من الواجب الحفاظ علي أموال الفقيد الذي وثق فيك ، ويجب أن نتصرف بسرعة قبل ان يتحرك رجال الشرطة ويتم التحفظ علي أمواله ، سأل صبحي شقيقه :- وأين نضع كل هذه الأموال ؟ قال صابر:- سنشتري بها سبائك ذهب وانا أعلم مكان لخبيئة في الصحراء لا يمكن للشرطة الوصول اليها – وكيف تستدل انت عليها ؟ – إنها حفرة في قمة تل مرتفع علي بعد500 متر من الطريق الصحراوي شرق اسيوط ، كنا ونحن طلبه في المدرسة الثانويه نقوم برحلات للكشافة في منطقة هذا التل المهجور .. قام صبحي مع أخيه بشراء سبائك الذهب ووضعاها في حقيبة مصفحة وذهبا لموقع التل ، كان التل كما وصفه صابر مهجوراً تماماً وفي قمته حفرة مستطيلة عمقها متر ونصف ، حفر الشقيقان في رمال الحفرة ليصل العمق إلي ثلاثة أمتار ووضعا الحقيبة وغطياها بالاحجار ثم بالرمال حتي العمق السابق وهو متر ونصف ، وبعدئذ غادرا المكان وعادا لمسكنهما .. مضت عدة أيام وتحققت مخاوفهما ، إذ أبلغ رجل الأعمال الذي إدعي إقراضه للفقيد نقودا بالدولار الشرطة ، واتهم الشقيقين بالإستيلاء علي أموال الفقيد .. أمرت النيابة بإستدعاء الشقيقين اللذان أنكرا حيازتهما لإي من نقود الفقيد ، ونفيا تبديدهما لإمواله .. طلب وكيل النيابة من إدارة المباحث تفتيش أصول وممتلكات الشقيقين والفقيد والحجز علي أرصدتهم في البنك .. وإزاء إنكار الأخوين الإستيلاء علي أموال المتوفي ، تمت محاكمتهما بتهمة تبديد أموال الفقيد ، وحكم عليهما بالحبس لمدة ثلاثة سنوات .. قضي الشقيقان أسوأ أيام حياتهما في السجن ، ما بين المعاملة القاسية للحرس والتنمر المستمر من باقي النزلاء ، وتحملا فيها أيام عجاف علي أمل أن ينالا المكافأة حال الإفراج عنهما .. أخيراً تم الإفراج قبل إنتهاء مدة السجن وذلك لحسن السير والسلوك .. لقد إستوفي المجتمع والقانون حقهما من الشقيقين ، ودفعا في المقابل أفضل سنوات عمرهما بين قضبان السجن . في اليوم التالي، أسرع الشقيقان إلي موقع التل ، وكانت المفاجأة الكبرى ، لقد تغير المكان من مهجور تماماً ، إلي مكان يمتلئ بمحلات الحمص والحلوي والسمسمية والمقاهي والمطاعم المقامة علي طول الطريق الرملي من الطريق الصحراوي وحتي قمة التل !! ، جلسا مشدوهين علي مقعدين في محل مشروبات وسألا صاحب المحل عن تفسير لما يشاهدانه ، أجاب الرجل ضاحكاً :- ألا تعلمان شيئاً عن المكان الذي جئتما إليه ؟ عموماً أنتم في حضرة ضريح الشيخ مبروك الذي له كرامات كثيرة لا تحصي ، جاء إلي مصر من بلاد المغرب منذ عامين وإختار أن يعتكف في حجرة خشبية بناها أعلي التل وإشتهر بعلاج المرضي ومن لا تنجب ومن يشكو من قلة الرزق وغيرها من الطلبات وكان يعيش هو وتلميذه علي ما يضعه الزوار في صندوق النذور وعلي هداياهم من أطعمة ومشروبات .. ولم يعيش في مكانه علي التل سوي عام وبضعة أسابيع ، توفي بعدها ودفن في الحفرة الموجودة أعلي التل بناء علي طلبه ، سأله صابر :- وهل يمكننا زيارة الضريح الآن ؟ – لا فمواعيد الزيارة تبدأ من التاسعة صباحاً ويغلق باب الضريح في الساعة السادسة بعد الظهر ..في صباح اليوم التالي صعد الشقيقان علي الطريق الذي تم رصفه والمؤدي إلي الضريح، وعندما اقتربا منه أصابهما الذهول مما شاهداه ، فقد كان بناءاً ضخماً من الطوب الأسمنتي وجدرانه مغطاه بملاط بني لونه جذاب، ورصفت الأرضية بالبورسولين ، بينما كان باب الضريح الحديدي مزود بسلسلة حديدية وقفل كبير ، أما الضريح نفسه فقد كان مغطي برخام أبيض ، مما أضفي عليه وقار ورهبه .. أثناء عودتهما من الزيارة ، قال صبحي لأخيه صابر:- أين نحن من هذا البناء الضخم ؟ إن جدرانه وارضياته من الخرسانة وبلاط البورسولين ، ناهيك عن باب الدخول الحديدي الذي يقفل بسلسلة حديدية ، هذا غير حارس الضريح المسلح الذي يرافقه كلب حراسة طوال الليل ، ربما لحراسة صندوق النذور الكبير والمتخم بالنقود ، فكيف لنا أن نتغلب علي كل هذه الصعوبات لنصل إلي الخبيئة ؟ لم ينم صابر طوال الليلة التي قضاها في الفندق بأسيوط ، كان يبحلق بعينيه في ظلام الحجرة يبحث عن حل .. مع شروق الشمس ربت صابر علي كتف أخيه طالباً منه أن يرافقه لزيارة الضريح !!..هناك إستمر في الطواف خارج مبني الضريح حتي توقف أمام محل للحلويات مبني بالطوب وطلب من صاحبه تأجير المحل كاملاً بالبضاعة ، وافق صاحب
المحل علي تأجيره بسعر مغالي فيه ، خاصة أن حركة البيع بطيئة كون المحل موجود خلف بناء الضريح .. في رحلة العودة للفندق شرح صابر خطه توصل لها لينفذاها معاً فقط وبدون علم أي شخص آخر .. قال صابر:- سنحفر في أرضية المحل بئراً عمقه ثلاثة أمتار ثم نستمر في الحفر أفقياً في إتجاه مكان المدفن لمسافة سنقدرها علي الطبيعة ، وعندما نصل اليه ، نكون قد وصلنا للحقيبه إذا حفرنا مسافة متر ونصف رأسياً لأعلي .. عقب صبحي علي ذلك بقوله:- إنها خطة ذكية نتخطي فيها جميع المعوقات فوق الأرض ،ولكن يتم التعامل أسفلها ، ويلزمنا لتحقيق ذلك جاروفين ومقطفين لجمع نواتج الحفر والواح خشبيه لتقوية جوانب النفق الأفقي واسطوانات اكسجين وشريط للقياس وكشافين إضاءة ، ويتم الحفر ونقل الرمال ليلاً لعدم جذب الأنظار، قال صابر:- ومن حسن حظنا أن أرضية محل الحلوي من الواح الخشب وسنحتاج اليها لبناء النفق .. هيا لنبدأ من الآن .. تم تنفيذ الخطة بنجاح وعثرا علي الحقيبة المخبأه بعد ثمانية أيام من الحفر الليلي .. في منزلهما جلسا يتفرسان طويلاً السبائك الذهبية ، وفي لحظة مصارحة للنفس، أدركا إنه لا حق لهما في هذه السبائك !! وإنه يجب صرف قيمة السبائك والتي تضاعفت قيمتها عدة مرات لتصبح بضع عشرات من ملايين الجنيهات في مشروع طالما حلما بإنشائه لخدمة المجتمعات الفقيرة ، قاما بشراء قطعة من الأرض علي الطريق الصحراوي بالقرب من التل المقام فيه الضريح وحصلا علي الموافقات اللازمة لإقامة منطقة خدمات بسعر التكلفة، تشمل مستشفي به تخصصات مختلفة ومدرسة ابتدائية وورشة إصلاح سيارات تقام علي الطريق السريع ، أنفقا فيها قيمة السبائك بالكامل، بالإضافة إلي ما أعلناه في وسائل الإعلان عن قبول التبرعات للمساهمة في إستكمال المشروع .. في اقل من ثلاثة سنوات إكتمل العمل وتولي الدكتور صابر الإشراف علي المستشفي الذي إكتسب شهرة كبيرة في مصر. كما تولي صبحي المحامي الإشراف علي باقي خدمات المشروع ..
العجيب في الأمر والذي يثير الدهشة ، هو مواظبة صابر وصبحي علي زيارة ضريح الشيخ مبروك ، ووضع ما تيسر معهما في صندوق النذور !!!