بقلم: د. خالد التوزاني
يتوق القلب دائمًا إلى المناسبات السعيدة، وأسعد مناسبة هي ذكرى الميلاد، فهي تدل على وجود الإنسان، إيجاداً من عالم الذر إلى فضاء الأرض، سعيداً في الدارين، ببركة دعاء الوالدين، ومسجد الوالدة أم مانع شاهد على سعادة الابن البار، ولدٌ صالح يدعو لهما، وقد كان. وعلم تنتفع به البشرية؛ مؤلفاتكم المفيدة، وقد كان. وصدقة جارية؛ أعمال الخير في ربوع العالم، وقد كان. فكيف لا تأزر السعادة إلى بيت مانع العامر، كما يأزر الإيمان إلى المدينة المنورة، وكيف لا تشتاق القلوب لرؤية مانع سعيد العتيبة، اشتياقاً لا يزول باللقاء، وإنما يزيد تدفّقاً وعشقاً، عطاءً من الرحمن الذي قذف المحبة في القلوب وجعل بعض الناس في أعلى الجنان ممن آتاهم الحكمة وفصل الخطاب ورزقهم من الطيبات ما أغدقوا به على البشرية عطاءً وبراً وفضلاً.
تأتي ذكرى ميلاد الدكتور مانع سعيد العتيبة السعيد، لتعيد للسعادة ألقها وبريقها، وقد حمل هذا المفكر العربي والأديب والشاعر والدبلوماسي، من السعادة الاسم والصفة، حسّاً ومعنىً، روحاً ومظهراً، كرماً من الباري جلّ وعلا، وتفضّلاً منه سبحانه، مصداقاً لقوله عز من قائل: “ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ” (الجمعة:4)، فلا عجب أن تشيع السعادة من حياضه لتروي عطش الإنسانية، ولا غرابة أن يكون شعار العتيبة بذلُ السعادة، فكلّ إناء بما فيه ينضح، وقد جعله الحق تعالى منبعاً للسعادة وينبوعا للحكمة والوقار والعلم والبهاء، قال تعالى: “هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ” (ص:39).
إن كلمات التهاني وجميل الأماني وحُسن المعاني، لا تفي بالمقصود عند استقصاء ما بذله الدكتور مانع سعيد العتيبة من جهود، وبمناسبة ذكرى ميلاده السادسة والسبعون الغالية، وقد اتسعت دائرة سعادته العالية، فضاقت الكلمات عن الوفاء لأياديه البادية كالمحجة البيضاء ليلها كنهارها، صافية كافية ومكافِئة، مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم “ مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ”، وأعظم مكافأة للإنسانية، حقّاً وصدقاً، هي وجود أمثال هذه الشخصيات النادرة في هذه الدنيا؛ فقد نثر السعادة في كل مكان ورفع راية الوطن عالياً بما قدّم من منجزات، فكان خير سفير للقيم الإنسانية والمثل العليا، وكان وراء دبلوماسيين كباراً خرجوا من بيت مانع العامر.
ومن الأعمال الجديدة للشاعر والمفكر الإماراتي الدكتور مانع سعيد العتيبة، نستحضر ديوانه الجديد الموسوم بــ: “حوار مع الوطن”، الذي يضم 142 قصيدة بالنبطي والفصحى، حافلة بتجليات الفرح بالوطن، والاعتزاز بالانتماء لأرض العروبة والإسلام، الإمارات العربية المتحدة، التي تسمو وتعلو، كل يوم بفضل ما يبذله أهلها ومحبوها من أعمال خالدة تبني الحضارة المعاصرة، وتقدم للإنسانية النموذج المثالي، في القيم والفضائل والمعالي، ولقد تشرفت بالاطلاع على هذا الديوان، فكانت لي فيه دراسة نقدية بعنوان: “البعد الوطني في حوار مع الوطن: تجليات الفرح وجمالية الانتماء”، وهو اتجاه في الإبداع يرصد موضوعة عشق الوطن والتغني بمفاخره، والتعبير عن الشوق إليه، شبيهة بقصائد العرشيات والحسنيات التي ميّزت الأدب المغربي في الدفاع عن الوطن، والتي قيلت في مدح باني المغرب الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، وقيلت أيضاً في عيد العرش المجيد، وهذا الاتجاه في التغني بالوطن ورموزه، اتجاه في الإبداع قديم جداً، فالكثير من الشعراء قبل الإسلام وبعده، كانوا لسان قبيلتهم، يدافعون عن مجد آبائهم بالكلمة الشعرية الصادقة والمعبّرة، فكانت قصائدهم تُكتب بماء الذهب وتُعلّق على أستار الكعبة الشريفة اعترافاً بما في تلك المعلقات من معاني الفخر بالانتماء، لتكون في تلك الأزمنة بمثابة النشيد الوطني بلغة عصرنا، ولذلك استحقت الكثير من قصائد ديوان الدكتور مانع سعيد العتيبة، أن تكون معلقات هذا الزمان، لأنها ترفع منسوب الحماس الوطني وتعيد للأرض قيمتها، وللإنسان دوره في حماية وحدة الأوطان وضمان استقرارها واستمرار رقيها وازدهارها، خاصة وأن هذا الديوان الشعري يأتي بعد جائحة كورونا، وقد كان مِن قَدر الله أن يكون شاعرنا في لندن بعيداً عن وطنه الأم، وبعيداً عن وطنه الثاني المملكة المغربية، فتدفّق الشعر اشتياقاً ولوعةً، وكان الديوان حافلاً بالبوح والشوق والمحبة للوطن.
لقد صنع الدكتور مانع سعيد العتيبة، في هذا الديوان أجمل معاني الوفاء للوطن وأرقاها، عبر حوار فكري وعاطفي مرهف الإحساس والجمال، وهو رجل الذوق الراقي والحوار العالي، فاستحقت قصائده في الشوق إلى الوطن، أن تُكتَبَ بماء العيون وليس بماء الذهب، فالعين التي تحرس الوطن لا تمسها النار، كما ورد في الحديث الشريف: “عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله”، وحراسة الوطن بالدفاع عن مجده وأمجاده ورموزه وأعلامه، من شيم الأبرار، وفي هذه الذكرى السعيدة، ذكرى ميلاد الدكتور مانع سعيد العتيبة السعيد، تسعد الأوطان، وتسعد الكائنات فرحاً بوجوده، فتلهج الألسنة بالثناء والحمد، محبةً وتعبيراً عن الوصل: وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ، وَفَـمُ الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ.
نِعم البشرى ونِعم الذكرى، ومدّ الله في عمر رموز هذه الأمة، بالبركات وعديد السنوات، حتى يحقّقوا للإنسانية السعادة الكبرى والهناء التام، وما ذلك بعزيز على ذوي الهمم العالية والنفوس الكبيرة، فعلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِم، وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ، وقد رأينا من عزيمة الأبطال الخالدين في تاريخ الإنسانية ما يثير العجب والدهشة، ويعطي النموذج والمثال للصمود والعمل والصبر والكفاح والتضحية والفداء، ولعل مَنْ يطّلع اليوم على منجز الدكتور مانع سعيد العتيبة خلال هذه السنوات الست والسبعون يدرك حجم ما بذله هذا العَلم الشامخ، والذي يفوق في عداد السنين ما يُنجزه فريق من المتعاونين، ولكنها بركة الأوقات قد سرت في سيرة هذا الرجل الشهم، شهامةً تُذكّرنا بأبطال الإنسانية الخالدين.
إن أمثال هذه الشخصيات ممن جعلهم الله مفاتيح الخير ومغاليق الشر، هي ما يجعل من ذكرى ميلادهم عيداً للإنسانية جمعاء، في فصل الربيع حسّاً ومعنىً، تزهر الأرض بالورد والعطر والبوح والجمال، وتتجدّد الذكرى فتغدو قيمة كبرى، تفرح بها البشرية وتسعد بالإنجاز، فما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح، وما سعد من أسعد إلا بصحبة مانع سعيد العتيبة، حيثما سار سارت السعادة في رحابه، وحيثما جال جالت البهجة في ركابه، فكان نِعم الرّحالة الذي لا يكتفي بالسفر ولكنه ينثر الفرح أينما ذهب.