بقلم: علي عبيد الهاملي
كاتب وإعلامي إماراتي
هل يتذكر أحدكم متى كانت آخر مرة استمع فيها إلى مسلسل إذاعي؟
هذا السؤال ليس موجها بالطبع لأبناء الجيل الحالي، وربما ليس إلى الجيل الذي قبله أيضا، وإنما إلى جيل الذين كانوا يقتنون أجهزة راديو بحجم يكاد يصل إلى حجم ثلاجة صغيرة، وبطارية تكاد تسد وجه الشمس، أولئك الذين شكل اختراع «الترانزستور» لهم نقلة حضارية، وكان نقطة تحول في حياتهم، غدوا يحملونه معهم أينما ذهبوا، بعد أن كان ذلك الراديو وبطاريته يحتلان ركنا كبيرا في المنزل، مشكلاً المصدر الأهم والأوثق لمعرفة الأخبار من المحطات الإذاعية ذات الجماهيرية الأكبر، مثل «هنا لندن» التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية، و»إذاعة برلين العربية» التي كانت تبث من ألمانيا، وإذاعة «صوت العرب» التي تبث من القاهرة، وغيرها من المحطات التي لعبت دوراً كبيراً في تغذية عقول أبناء ذلك الجيل، وتشكيل وجدانهم، وتوجيه ميولهم منذ منتصف القرن العشرين وحتى عصر ثورة التكنولوجيا والمعلومات والشبكات العنكبوتية التي نقلت العالم إلى مرحلة من التواصل لم تكن تخطر على بال أحد.
رُبّ سائل يسأل: ولماذا تطرح هذا السؤال الآن، وما هي مناسبته؟
مناسبة السؤال خبر، يقول إن الإنترنت والمسلسلات التي توفّرها منصات البث التدفقي أخفقا في زعزعة العشق القائم بين الكوبيين والمسلسلات الإذاعية، وأن هذا النوع بقي صامداً في كوبا، التي كانت طليعية في هذا المجال في أميركا اللاتينية، إذ لا يزال مسلسل «حب بالمزاد» الذي تبثه إذاعة «بروغريسو» ظهراً يأسر المستمعين الكوبيين بقصة تدور أحداثها في هافانا في بداية القرن العشرين، ويذكرهم بالمسلسل الإذاعي «الحق في أن تولد» الذي جرى بثه قبل 80 عاما، وروى قصة وريثة عائلة ثرية من هافانا، وقد شدت حكايتها المستمعين على مدى 314 حلقة إذاعية، ظلوا يتابعونها بشغف، وجذبت المستمعين في الأرجنتين وكولومبيا والمكسيك وفنزويلا، وحتى البرازيل مع ترجمة إلى البرتغالية.
في التحقيق الذي رافق الخبر أعرب عدد من الكوبيين عن تمسكهم بالاستماع إلى المسلسلات الإذاعية، واستغرب أحدهم مقولة إن المسلسلات الإذاعية نوع تافه مخصص لربات البيوت أو للأشخاص ذوي المستوى الثقافي المتدني، وقالت إحداهن إن المسلسلات الإذاعية تعجبها كثيرا، وأضافت: إن هذا المسلسل خارج عن المألوف، وتأسرها فيه شخصياته وأداء الممثلين فيه. بينما قالت المديرة الفنية للمسلسل إن «الدموع والهمسات والسعادة المؤجلة مكوّنات شديدة الفاعلية باستمرار». وخلال جلسة تسجيل في مقر «راديو بروغريسو»، حيث يبدو أن الزمن توقف عند خمسينيات القرن العشرين، أعربت الممثلة نيلاس سانشيز، التي كرّست نصف قرن من حياتها للإذاعة، عن اقتناعها باستمرار هذا النوع لأن لدى كوبا تقليداً في مجال الإذاعة، وتقليداً في الاستماع إلى المسلسلات الإذاعية.
هذه الآراء كلها تصب في صالح المسلسلات الإذاعية، وإن كان أغلبها قد صدر عن أشخاص تجاوزت أعمارهم الخمسين عاما، وبعضهم في الثمانين، إلا أن الجزء الثاني من الخبر، يلقي ظلالا أخرى عليه، ويفتح مجالا للنظر إليه من زاوية أخرى ومختلفة.
في شقته في حي «ألامار» بالعاصمة الكوبية هافانا، يستخدم ألكسيس كاستيّو، وهو مستمع في الرابعة والخمسين من عمره، شغوف بالوسائل التكنولوجية الجديدة، رغم كونه كفيفاً، يستخدم برنامجاً لضعاف البصر لتسجيل كل حلقة من حلقات المسلسل الإذاعي «حب بالمزاد.» وفي المساء، يضع الحلقة على مجموعة الواتساب التي أنشأها، والتي تضم نحو 100 ممثل ومخرج ومنتج ومستمع متحمس من مختلف مناطق كوبا، ويقول إن الأشخاص الذين لم يتمكنوا من الاستماع إلى الحلقة لأنهم يعملون، أو لعدم توافر التيار الكهربائي، يمكنهم الاستماع إليها لاحقاً. وعندما ينتهي المسلسل، يقوم كاستيّو بتحميله بالكامل على «سحابة رقمية» حتى يتمكن المعجبون في كوبا وخارجها من الاستماع إليه. إنها خدمة بودكاست مرتجلة أطلق عليها كاستيّو اسم «الراديو الانتقائي».
أخلُص إلى القول إن المحتوى هو الأهم، وإن الوسيلة مهمة في نقل المحتوى، وإن الوسائط والأساليب الحديثة ليست عائقا أمام نقل المحتوى، بل هي معززة له، إذا عرفنا كيف نستفيد منها. وهذا يجيب على الأسئلة التي تطرح حول إشكاليات التكامل والتنافس بين الإعلام المؤسسي ووسائل التواصل الاجتماعي التي تطرحها المنتديات والمؤتمرات العلمية، والتي غالبا ما تتوصل إلى أن الحاضر لا يلغي الماضي، وأن المستقبل يقتضي الاستفادة من وسائل الحاضر الحديثة، واي وسائل أخرى تظهر في المستقبل.