بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
منذ سنوات عديدة فرضت الولايات المتحدة عقوبات قاسية على سوريا وكذلك على الرئيس السابق بشار الأسد، وهذه العقوبات ما زالت بمعظمها سارية حتى بعد التغيير الذي حصل في سوريا والذي نتج عنه إزاحة الأسد عن الحكم ولجوئه الى روسيا.
العقوبات التي فرضتها كل من الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي وكندا وسويسرا وأستراليا وجامعة الدول العربية، كان سببها قمع المدنيين المعارضين للنظام آنذاك وقتلهم بطرق وحشية، وقصف المدن بالبراميل المتفجرة في الحرب الأهلية التي بدأت في العام 2011.
بعد أن تمكن أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً) من السيطرة على العاصمة السورية دمشق وخلع الرئيس الأسد بهذه السرعة التي فاجأت العالم، سارع مسؤولون دوليون، ومن بينهم مسؤولون أميركيون، الى بناء جسور مع الإدارة السورية الجديدة عبر زيارة دمشق ولقاء أحمد الشرع والتباحث معه حول مستقبل سوريا من أجل تحديد مستقبل علاقة هذه الدول مع نظام الحكم الجديد.
لم تتأخر الولايات المتحدة في إيفاد نائبة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط باربرا ليف على رأس وفد الى دمشق، وكان ذلك بعد أن أعلن وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن مجموعة من ما سماه “مبادئ” والتي كانت بمثابة شروط من أجل تغيير سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا ودعم حكومتها الجديدة، وأهم هذه الشروط: “أن تؤدي عملية الإنتقال الى حكم موثوق وغير طائفي يفي بالمعايير الدولية للشفافية والمساءلة بما يتفق مع قرار مجلس الأمن رقم 2254، وعلى الحكومة الجديدة ان تلتزم باحترام حقوق الأقليات وحقوق المرأة بشكل كامل، وأن يتم تسهيل تدفق المساعدات الإنسانية الى جميع المحتاجين، ومنع استخدام سوريا كقاعدة للإرهاب أو تهديد جيرانها، وضمان تأمين الأسلحة الكيميائية أو البيولوجية وتدميرها بطريقة آمنة”.
وقد أكد الوزير بلينكن أن الولايات المتحدة “ستعترف وتدعم بشكل كامل الحكومة السورية المستقبلية الناتجة عن هذه العملية وستقدم كل الدعم المناسب لجميع المجتمعات والدوائر المتنوعة في سوريا.” ومن الطبيعي أن مثل هذا الدعم الأميركي لا يمكن أن يتم قبل إزالة العقوبات. لذلك سنعرض باختصار مجمل هذه العقوبات، ثم نبحث ما تغير حتى الآن في الموقف الأميركي، ونحاول في الختام رصد ما ستكون عليه السياسة الأميركية الجديدة في عهد الرئيس دونالد ترامب الذي يدخل من جديد البيت الأبيض بعد أيام قليلة.
أولا: ماهية العقوبات المفروضة على سوريا:
منذ شهر كانون الأول/ديسمبر عام 1979، أدخلت الولايات المتحدة سوريا على لائحة الدول الراعية للإرهاب، وتم بعد ذلك إضافة عقوبات أخرى في منتصف العام 2004 في عهد الرئيس جورج بوش الإبن. ولكن مع اندلاع الثورة ضد الرئيس بشار الأسد في إطار ما عرف بالربيع العربي في أواخر العام 2010 وبعد قمع المتظاهرين بعنف قوي على يد الجيش السوري، أصدر الرئيس باراك أوباما في فترات متتالية بين العام 2011 والعام 2016 مجموعة من العقوبات ضد مسؤولين سوريين وضد الحكومة السورية كما تم منع المواطنين الأميركيين من الإستثمار في سوريا ومنع استيراد النفط السوري، وتبع ذلك فرض عقوبات على الرئيس السوري بشار الأسد وعدد من وزرائه ومعاونيه.
في العام 2012 تم إقفال السفارة الأميركية في دمشق، وتلا ذلك إضافة عقوبات على شركة الطيران السورية وحاكم المصرف المركزي ورجال أعمال سوريين يتعاونون مع النظام، ومسؤولين ماليين وعسكريين وكل ذلك بصورة تدريجية على أمل أن تؤدي هذه العقوبات الى تغيير سياسة النظام السوري تجاه الثوار، ولكن لم تفلح هذه العقوبات في تحقيق أية نتيجة على أرض الواقع في سوريا.
وفي عهد الرئيس دونالد ترامب، أصدر الكونغرس الأميركي ما عرف بقانون قيصر الذي وقعه الرئيس ترامب في أواخر عام 2019 وهو يشمل مجموعة إضافية من العقوبات على الحكومة السورية والرئيس السابق بشار الأسد بتهمة تنفيذ جرائم حرب ضد الشعب السوري، مستهدفا أيضاً عدداً من الصناعات السورية التي تعمل في مجال البنى التحتية وصيانة المنشآت العسكرية. كذلك تم فرض عقوبات عبر هذا القانون على مؤسسات روسية وإيرانية تدعم الرئيس الأسد في الحرب الأهلية. ويعتبر هذا القانون شديد القساوة ضد سوريا ورئيسها والمتعاونين مع نظامها.
وقد أبقى الرئيس بايدن على هذه العقوبات وأضاف عليها عقوبات أخرى في إطار محاربة إنتاج مخدر الكابتاغون في سوريا وتصديره الى مختلف الدول لتمويل حاجات النظام السوري خلافاً للعقوبات المفروضة عليه.
ثانيا: ماذا تغير في الموقف الأميركي بعد إزاحة الأسد:
بعد تسلم هيئة تحرير الشام زمام الحكم وخروج بشار الأسد من سوريا، رحبت الإدارة الأميركية بهذا التغيير وسارعت الى إيفاد نائبة وزير الخارجية الى العاصمة السورية كما أشرنا سابقاً، وقد أعربت الإدارة عن ارتياحها لانتهاء حكم الأسد، كما أنها ألغت المكافأة التي كانت وضعتها للقبض على أبو محمد الجولاني الذي يخضع لعقوبات أميركية بسبب ماضيه “الإرهابي”، ولكنها لم تقم بإلغاء العقوبات المفروضة على سوريا إذ أنها قررت ترك هذه المسألة للإدارة الجديدة برئاسة ترامب التي تتسلم الحكم في العشرين مي الشهر الحالي.
ولكن من جهة ثانية، وللتعبير عن ارتياحها لخروج بشار الأسد من الحكم بالرغم من أن المنظمات التي قامت بهذه العملية هي منظمات معتبرة إرهابية بنظر الولايات المتحدة، فإن إدارة الرئيس بايدن قررت التخفيف بعض الشيء من العقوبات المفروضة دون إلغائها، خاصة في الأمور الإنسانية ومن أجل ضمان عدم إعاقة الخدمات الأساسية مثل توفير الكهرباء والطاقة والمياه والصرف الصحي، وهذا الإجراء التخفيفي للعقوبات مدته ستة أشهر تراقب في خلالها الإدارة الأميركية ما يحصل على الأرض في سوريا كي تبني بعد ذلك على الشيئ مقتضاه.
يمكن القول هنا باختصار أن الولايات المتحدة خففت قليلاً من وقع العقوبات على سوريا دون إلغائها بانتظار أن تتبلور الأمور وتظهر أولويات الحكومة السورية الجديدة بوضوح أكثر، هذا مع العلم أن إدارة الرئيس بايدن تكون قد رحلت في هذه الفترة والقرارات المقبلة ستكون متروكة لإدارة الرئيس ترامب.
ماذا ستكون سياسة ترامب حيال النظام الجديد في سوريا؟
لم يعلن الرئيس ترامب حتى الآن بصورة واضحة ماذا ستكون سياسة إدارته تجاه الوضع الجديد في سوريا كما أنه لم يوضح أي شيء بالنسبة الى احتمال رفع العقوبات أو الإبقاء عليها، ولكن مثله مثل سائر الدول التي فرضت عقوبات على نظام بشار الأسد، فإنه سينتظر التطورات في الداخل السوري ربما الى ما بعد تشكيل الحكومة السورية الجديدة لمعرفة مواقفها وتوجهاتها العامة وطريقة الحكم وبصورة خاصة موقفها من إسرائيل، وما إذا كانت إيران سيكون لها تأثير من جديد في الحياة السياسية في سوريا، وكل هذه الأمور تعلق عليها أية إدارة أميركية أهمية كبرى في سبيل تحديد مستقبل علاقاتها مع النظام السوري الجديد.
يضاف الى كل هذه الإعتبارات التي من شأنها أن تؤخر أي قرار أميركي بشأن سوريا ما ستواجهه إدارة ترامب من إنشغالات على الصعيد الدولي وفي طليعتها حرب إسرائيل على قطاع غزة وحرب روسيا على أوكرانيا التي وعد ترامب أثناء حملته الإنتخابية بأنه سينهيها فور تسلمه الرئاسة، وكذلك الأمور الدولية التي أثارها ترامب بعد انتخابه مثل ضم كندا الى الولايات المتحدة والسيطرة على قناة بانما وشراء جزيرة غرينلاند التابعة للدانمارك، وكلها أمور بدأت تأخذ حيزاً هاماً من الإهتمام الدولي، هذا بالإضافة الى الأمور الداخلية الكثيرة التي أثارها ترامب أثناء حملته الإنتخابية والتي عليه معالجتها بعد دخوله البيت الأبيض.
في المحصلة، يمكن القول بموضوعية أن السياسة الأميركية الجديدة تجاه سوريا ستحدد بصورة عامة بناء على مواقف الحكومة السورية الجديدة وما ستتخذه من قرارات ليس فقط على صعيد الحياة السياسية الداخلية في سوريا، ولكن أيضاً وبصورة خاصة على صعيد علاقات سوريا الدولية وفي طليعتها علاقاتها المقبلة مع إيران ومع روسيا وما سيكون موقفها من إسرائيل، وهل سيكون للمنظمات السورية المعتبرة إرهابية بنظر الولايات المتحدة دور في الحكم، علما أن الولايات المتحدة سجلت بارتياح عدم الإحتجاج السوري القوي على ما قامت به إسرائيل من توسع في الداخل السوري وتدمير شبه تام للقوات الجوية والبحرية السورية.
لذلك فإننا لا نتوقع ان تتخذ إدارة الرئيس ترامب في المستقبل القريب قرارات حاسمة برفع العقوبات عن سوريا بالكامل، ولكن قد تحصل بعض التطورات الإيجابية بصورة تدريجية، من جهة كردة فعل على كل خطوة سورية تراها الولايات المتحدة إيجابية، ومن جهة ثانية من أجل تشجيع الإدارة السورية الجديدة على إبعاد المنظمات الإرهابية وعدم التقارب مع إيران وروسيا، وخاصة لجهة عدم تمكين إيران من إرسال الأسلحة والأموال الى حزب الله في لبنان عبر سوريا، هذا مع العلم أن قانون قيصر الذي يفرض عقوبات على المؤسسات الحكومية السورية لا يمكن إلغاؤه إلا بإصدار قانون آخر من الكونغرس الأميركي وهذا الأمر يتطلب بعض الوقت.