بقلم: تيماء الجيوش
كما هو الحال في العديد من المجتمعات ، تطلع السوريون دوماً وبأملٍ ان يحظوا بنظامٍ ديمقراطي يتمتعون به بحقوقهم و يمارسونها على أساسٍ من المساواة و الكرامة. لكن هذا لم يحدث ، بل كان العنف السياسي يتجذر و يرمي بصبغته على جزء لا يُستهان به من تاريخ سوريا المُعاصر. على امتداد نظام الأسد الديكتاتوري لعقود، تعددت فيها الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان من مذابح، تعذيب ، تمييز ، منع المشاركة السياسية و سجون امتلأت بمعارضيه . أُشبِعَ السوريون تهميشاً، ظلماً، و قتلاً … و منذ سقوط النظام ، تابع معظمنا أهالي الضحايا و هم يندفعون عفوياً نحو مراكز الاعتقال بحثاً عن أحبتهم ، عمن أعتُقِل من أُهاليهم من قبل أجهزة الأمن المختلفة عقاباً لهم عن معارضتهم للنظام ، و لتعبيرهم عن آراءهم السياسية على اختلاف شكل هذا التعبير و مكانه.
أرقام الضحايا كانت مخيفة ، أعداد من اختفى قسرياً ( ١٣٠ ألف حالة اختفاء قسري) و ما وُجد من ادلة و أسماء عن الضحايا لا تتجاوز عشرها. ما لا يحتمله عقل بشري حدث في المعتقلات والسجون السورية ، الضحايا من المعتقلين سُحِقت أجسادهم بالمكبس ، نالهم التعذيب و القتل المباشر ، و باتت رفاتهم تتناثر في المقابر الجماعية . أجزم أن الذاكرة السورية سوف تبقى تئن ولفترة طويلة مما حدث من انتهاكات . مع ثورتهم بات ما تطلع إليه السوريين وحلمهم قابلاً للتحقيق في الحرية، العدالة الاجتماعية ، السلام المستدام، الاستقرار والتعايش وفقاً لعقدٍ وطني جامع.
لكن كما هو الحال في الثورات المختلفة تبدأ الارتدادات فرادى و جماعات، ربما إحدى صورها عدداً عن إعدامات فردية نالت ممن كان جزءاً من جهاز الأمن، التعذيب و الاعتقال التابع لنظام الأسد. و لعل المثال الأقرب هو ما حدث مؤخراً لمختارٍ من ضاحية دمر حيث قُتِلَ و صُلِب إلى جذع شجرة. و هو بحسب ما روي عنه كان سبباً مباشراً في سجن، مقتل و اختفاء العديد من المدنيين من منطقته. بادئ ذي بدء ، لنا الحق بالقول أن الثورة السورية هي أكثر سمواً و أعلى شأناً أخلاقاً و سياسةً من نظام ديكتاتوري فاسد جاء على رأس السلطة بالقوة . وبقدر ما هو هام عدم عودة أي نظام سلطوي إلى البلاد ، بقدر ما هو اليوم هام الحفاظ على السلم الأهلي في ظل التنوع المجتمعي سواء كان عرقياً ، جندرياً، دينياً ، أم طائفياً ..إلخ . السلم الأهلي من شرائطه الأساسية احترام الديمقراطية و فصل السلطات التشريعة و التنفيذية و القضائية. و إزالة هيكلة العنف في القانون و المجتمع و السياسة مع الأخذ بعين الاعتبار أن النظرية والتطبيق لا ينفصلان و لا يمكن للنظرية أن تكون غطاءً شرعياً يخفي عنفاً أو انتهاكاً. وهذا كله حقيقةً هو ما يدفع بالعدالة الانتقالية لان تكون اولوية للمجتمع الذي يعمل جاهداً لتجاوز حالة الحرب والعنف إلى مرحلة من السلام ، الديمقراطية، احترام حقوق الإنسان و سيادة دور القانون. العدالة الانتقالية ليست أمراً سياسياً صِرفاً ، هي تمنع العنف السياسي ، تؤسّس المسؤولية السياسية في إطار نظام ديمقراطي و هذا حقيقي ، لكن جوهرها هو قانوني و تشريعي ، فاحترام دور القانون و سيادته هو إحدى الدعائم التي تقوم عليها النظم الديمقراطية ، و العدالة الانتقالية حين تنظر في حل النزاعات و عبر المؤسسات القضائية تستند إلى النصوص القانونية التي يجب على الجميع التقيد بها لا سيما مبادئ القانون الدولي و حقوق الإنسان.
والعدالة الانتقالية تتمثل جدواها في أنها تمنع الانتقام الفردي ، تأتي أهميتها من أنها أداة تُمكّن مجتمعاً بأكمله أن يلتمس طريقه لخلق مستقبل مختلف ، للعيش بسلام. و بالطبع للعدالة الانتقالية أبعاد و مقاربات متعددة لكن دعامتها هي المقاربة القضائية التي تعكسها برامج بعينها، ومن الهام اليوم ان يكون هناك مثل هذه البرامج(أي برامج عدالة انتقالية) في سوريا لبناء السلام و التعافي من هذا العنف الممنهج الذي أودى بحياة المدنيين الأبرياء، التعافي من انتهاكات لحقوق الإنسان نالت من كرامة النساء، الرجال ولم توفر الأطفال. من خلالها يتم أولاً تحديد المسؤول عن هذه الانتهاكات عبر تحقيقات قانونية في الجرائم المرتكبة ، و بالتالي تقديمهم إلى المحاكم المختصة. وثانياً بذل العناية اللازمة لأهالي الضحايا و الضحايا أنفسهم . ثالثاً و الأهم من هذا كله منع أي انتهاك لحقوق الإنسان في المستقبل و الحفاظ على السلام والسلم الأهلي. المقاربة القضائية ليست حديثة العهد في التشريع الدولي، بل لها تاريخ محاكمات دولية سابقة أهمها محاكمات نورمبرغ و ما أفضى إليه الجهد التشريعي الدولي لاحقاً من تشكيل محاكم خاصة لمرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان. وبطبيعة الحال العدالة الانتقالية تقتضي وجود مؤسسات لها معايير مختلفة كماً ونوعاً عن المرحلة السابقة ، قوانين تعتمد مبدأ المساواة و اعتبار المعاهدات والمواثيق الدولية مصدراً تشريعياً أساسياً في صياغة الدستور. ناهيك عن الإصلاحات في السلطة القضائية و التنفيذية من قوى امن داخلي وأجهزة أمنية. و يتزامن هذا وذاك مع الواجب الأخلاقي والإنساني الذي يُملي ان تتم مواجهة و مصارحة فيما حدث من انتهاكات و العودة إلى الضحايا، تأهيلهم وأهاليهم في هذا الأمر بالغاً ما بلغ هذا الأمر.
هذا كله يقودنا إلى حيث العدالة وآلية المحاسبة التي يجب أن يؤخذ بها سريعاً و جدياً نظراً لما تُحدثه من أثرٍ على السلم الأهلي الذي تستحقه سوريا بعد عقودٍ من الألم و الاضطهاد و كبت الحريات. اليوم القانون والمؤسسات القضائية مُعلقة في سوريا، سلطة المتابعة القضائية من يقوم وله صلاحية الاستدعاء و التحقيق من نيابة عام، قضاة تحقيق و قضاة إحالة مُغيبة، المجتمع المدني ليس ذو صلابة تُمكّن و تدعم ملفات الضحايا في الملاحقة القضائية ناهيك عن ائتلافٍ بنيوي جامع لهذه القضايا ، وبالمجمل ليس هناك رؤيا أو إستراتيجية محددة بخصوص العدالة الانتقالية في سوريا وهذا جدُ حرج .
الضحايا وأهاليهم يعيشون صدمة العنف مراراً و تكراراً و قد آن لهم ان يتقدم دور القانون و سيادته و يعيد لهم حقوقهم. كيف يمكن لبلدٍ قد نجا من محرقةٍ سياسية على يد نظامٍ دموي ألا يكون فيه القانون فاعلاً ؟ كيف لا يمكن النظر بعيداً وان هذا سيترك الباب مفتوحاً لانتقامٍ فردي قد يبتعد و يجنح في تفاصيله؟ يحق للسوريين و ثورتهم ألا ينجرفوا إلى انتقامٍ فردي هنا و هناك بل إلى محاسبة حقيقة و قرارات قضائية تصدر عن قضاءٍ مستقل له معايير عليا في احترام حقوق الإنسان و ما نصّت عليه العهود والمواثيق الدولية و هذا أضعف الإيمان و هذا ما يليق ب سوريا و عراقتها و حضارتها.