الأديبة إخلاص فرنسيس
قصة قصيرة
يمشي بين أعمدة الهيكل، تتثاقل خطواته، أسمر، عريض المنكبين، شفة غليظة تميز بها أبناء النيل، إضافة إلى السمرة والروح الجميلة، ولكن هذا المساء كان يحمل على أكتافه أعمدة الكرنك بكل ما فيها من ثقل، وكان يجرجر خطواته نحو العتمة، وكأنّه يمشى في اللاوعي، في اللاشيء، عبير الورود اختفى، وصوت الليل وأنين النقوش الفرعونية على الجدران كانت شريطًا سينمائيًّا تحكي قصة أحدهم، مراسيم الأعراس، مراكب الموتى، أنين خفاش الليل، النّاي الذي يتهادى من المقاهي المجاورة كلّها مجتمعة، وكأنّها مركب تحمله الليلة الأخيرة الكرنك، الكلّ يأتي ليسمع قصّة ولادة العشق والحبّ، وما قدّمه العشّاق على مذبح العشق لعشّاقهم الذهب المرمر والرخام، والتاريخ حافل بهم، وهو متثاقل تحت أفكاره، ماذا يقول، وكيف يبادر نهاية الحلم، الكلّ في بداية الزمان، وهو وهي في نهاية الطريق، حاول أن يضحك، أن يسمعها نكاتٍ سخيفة، ليسمع ضجيج ضحكتها البريئة، كي يشرق النور على حياته، سماح قالت له: مهما يكنْ أزل عن كتفيك هذا الحمل الثقيل، وابعث روحك من بين هذا العويل، أيها الغريب، أعرف وتعرف، هنا أردت أن ننقش قصّة العشق في معبد الكرنك، ونختم عليها، ونستودعها صدور الأقدمين في صناديق من الغرانيت، أو الخشب لا يهمّ.
انحنى، وراح يكتب بصمت بإصبع الوجع على تراب الأزقة
عرفتك، ستكونين “لحن الخلود” في الكرنك
قالت له: تكلم
لم ينبس ببنت شفة
بل تنهّد وراح يدور في حلقاتٍ مفرغة
خافت، ارتعبت، ضمّها، فهدأت
تناهت إلى أذنيها أصوات أجراس الكنائس مع أصوات المؤذّنين للغروب، يفتحون الطريق أمام الليل كي يعبر
هنا قالت له: أريد أن أنام في باحة المعبد
لا، لا، بل على أعلى قمة فيه
أريد أن تتجانس روحي مع أرواحهم
أريد أن أرحل من هذا العالم الفظّ القاسي
وهذا الزمن الظالم
وجدتني حين وجدتك، عرفتني حين عرفتك، وهنا توقّف زماني، شامخة روحي كهذه الأعمدة التي تشهد حكايات الأولين.
لم يقل، لم يحكِ، بل تنهّد
وكالنيل دمعه فاض كما أيّام الحصاد.
ارتفاع منسوب العشق بدا، وغمره طوفان الشّوق قبل أن يرحل، والحنين أطبق على شفتيه، فصمت، وأصغت الى روحه، لم تردْ أن تخرجَه عن صمته بعد الآن، لأنها عرفتْ قدسيّة الصمت في معبد العشق، تناولت يده في راحة يدها، وطبعت قبلة على شفة الحلم، وسارت معه بين قصب السكر يدًا بيد، والخدّ على الخدّ، واختفيا عن الأنظار في أزقة الكرنك، يلفهما الليل وأساطير العشاق، نظرت حولي، فرأيتني أقف أمام جدار أعادني صوت مرشدي: هنا انتهت قصّتهم التي بدأت قبل تكوينهم أجنة في رحم الحياة، وشهدت هذه الكواكب عليهم، وكللتهم النّجوم برباط مقدّس، ولكن أرادا أنْ يُظهرا للبشريّة أنّ العشق هو الدين الذي يوحّد الأمّة، لم يجدا سوى الرفض والحرب والقمع والنطع، فقرّرا العودة إلى هذا الجدار، نقوش في ألوان من الجير والطوب، وقصّة عشق في جدران الكرنك لم ولن تنتهي.