بقلم: شريف رفعت
ملخص ما سبق
مهندس الورشة متفاني في عمله، إهتمامه الزائد بورشته يتسبب في فشل خطبته لمن أحببها. يحضر إجتماع لإدارة الشركة حيث يختلف مع رئيس مجلس الإدارة و يعبر عن رأيه بطريقة تفهم على أنها تحدي للإدارة.
يحدث تقارب بينه و بين «تريز» المهندسة الجديدة في الورشة، إعتاد أن يوصلها لمنزلها في عربته بعد ساعات عملهما. في إجتماع آخر للإدارة يبدي ملاحظات سلبية على إسلوب رئيس مجلس الإدارة ينتهي بطرده من الاجتماع، يستدعيه رئيسه المباشر مدير الإنتاج و بنتقد إسلوبه الصدامي و يحذره من عواقب سلوكه.
الفصل الثالث و الأخير
لم يشعر بالرغبة في العودة للورشة، توجه إلى كافيتريا الشركة، الكافيتريا كبيرة و لها واجهة زجاجية تطل على الممر الخارجي، إختار مكانا في ركن الكافيتريا و بدأ يسترجع أحداث الأيام السابقة، هل هناك شيء من الصحة في كلام مديره، هل هو لا يعرف كيف يتصرف، هل شعوره بقوة موقفه في ورشته و بتفوقه في عمله أعطياه شعورا بأن من حقه أن ينتقد ما لا يعجبه، الرجل مخطيء في قوله أن الصواب و الخطأ أمر نسبي، الصواب صواب و الخطأ خطأ، لماذا تعقدت أموره فجأة هكذا، ثم تلميح الرجل عن تصرفاته الشخصية، بالطبع يقصد توصيله المتكرر لتريز في عربته، هل هذا أمر يشينه أو يضايق أحدا، ثم ما هذا التهديد بأن الإدارة يمكنها أن تضره؟ ماذا سيفعلون به، هل سينقلونه إلى وظيفة أخرى لا علاقة لها بورشته و لا علاقة لها بالإنتاج، هل يستطيعون الإقدام على ذلك؟ لأول مرة فقد مقدرته على التحدي و شعر برغبة في الانسحاب، في ترك كل هذه التعقيدات، فكر في العثور على عمل في أحد بلاد البترول، له زملاء في مواقع مختلفة عن طريقهم يمكنه العثور على عمل عائده المادي أضعاف مرتبه الحالي و في الغالب يحتاج لجهد و حرق دم أقل.
يدخل مدير الإنتاج إلى الكافيتريا، يتوجه له و يقول:
ـ أخبارك إيه إنت تمام؟
يستغرب من سؤال الرجل، يرد:
ـ تمام، متشكر على سؤالك، سيادتك بتسأل ليه.
يتجاهل الرجل سؤاله و يقول له:
ـ إيه رأيك تاخذ لك أجازة إسبوع تستريح فيها.
ـ لا أعتقد أني أحتاج لها، ثم إن هناك أمور كثيرة في الورشة تحتاج لوجودي.
ينصرف الرجل و يستمر هو في تفكيره، هل كان يفكر بصوت عالي؟ يحدث نفسه فلمحه الرجل و جاء للإطمئنان عليه؟ حدث من قبل عندما يمعن في التفكير أن يتحول تفكيره إلى كلام مع نفسه، هل حدث هذا الآن. و هل ظن الرجل به الظنون.
ينصرف متوجها لورشته و فكرة العمل في بلد آخر تسيطر عليه. يدخل الورشة، شعر بحب غريب لها، طاف بين الآلات لمجرد الطواف، كي يتأكد أن الآلات مازالت في مكانها و أنه مازال مسئولا عنها، نظر إلى العمال كلٍ على آلته، هؤلاء هم رجاله كما يحلو له أن يطلق عليهم، هذا هو عبد القادر أكبر العمال سنا و أكثرهم إلتزاما و مهارة، يعمل دائما في صمت، و تعطى له دائما الأعمال الصعبة، بجواره على الفريزة حسين، يسميه زملاؤه حسين حركات، يحضر للعمل على موتوسيكل، فخور هو بموتوسيكله و بنظارته الشمسية، بدلا من چاكت الأوڨـرأول يرتدي فانلة ضيقة تظهر عضلاته، هذا حنفي ملك الشكوى، يشكو دائما ضيق الحال و مصاريف العيال، يتطلع دائما إلى العمل ساعات إضافية كي يُزيد مرتبه. كم يحبهم هؤلاء البسطاء الطيبين، رجاله الذين يعتني بهم و يستمد منهم قوته، بالتأكيد إذا ذهب إلى بلد بترولي للعمل ستكون العمالة أسيوية، ليس بينهم عبد القادر و حنفي و حسين حركات.
يقابله ملاحظ الورشة، يسير بجواره بين الآلات، يقول له مبتسما:
ـ الشركة كلها عرفت تعليقك على محاضرة رئيس مجلس الإدارة، و كلهم بيقدروا جدعنتك.
يبتسم إبتسامة مجاملة حزينة و لا يعلق، يلاحظ الرجل شروده فيسأله:
ـ في حاجة مضايقاك.
ـ طلبني مدير الإنتاج، إنتقد بعض تصرفاتي و فهمني إن الإدارة يمكنها أن تضرني، أعتقد أنه يتكلم عن نقلي من الورشة.
ـ مش معقول و الله ما يقدروا يعملوها.
ترك الملاحظ و توجه إلى مؤخرة الورشة، هناك عربة نقل تنقل مشغولات إنتهت الورشة منها، تنقلها إلى عملاء الشركة، الرافعة تُحَمِّل المشغولات الثقيلة المنتهية على عربة النقل، يقف يراقب المنظر كأنه يراه لأول مرة، منظر رائع منتجات الورشة المنتهية تنقل للعملاء، يسأل نفسه أليس هذا جميلا، كم من العمل و الجهد سُخِروا لهذا المنتج، تخطيط عملية التشغيل، إختيار الآلات و الفنيين المناسبين، تنفيذ عملية التشغيل على الآلات، تفتيش أخصائي جودة الإنتاج على المنتج لضمان مطابقته للمواصفات، مجهود منظم مخطط مدروس، ترى كم موقع إنتاجي في البلد له مثل قدرات ورشته، إنتابه شعور يعرف أنه ساذج بأن لا أحد في البلد عاد ينتج و أن عليه هو و ورشته أن يعوضا ذلك و ينتجوا بدلا من البلد كلها. نسى موضوع البحث عن عمل في بلد آخر.
حان وقت إنصرافه، أخذ تريز معه و استقل عربته، فكر مرة أخرى في كلام مدير الإنتاج عن تصرفاته الشخصية، هل أصبح توصيله لها إلى منزلها مصدر إشاعات في الشركة؟ كيف عرف مدير الإنتاج بهذا الأمر إذا لم تكن الشركة كلها تتحدث عنه، هو لا يهتم، لكن ما تأثير ذلك على تريز المسكينة و هل تدرك أن الشركة تتحدث عنهما. لاحظت هي صمته على غير العادة. سألته:
ـ مالك في حاجة مضايقاك.
ـ ممكن لو عندك وقت نقعد في كافيتريا نتكلم.
ـ طبعا.
دخلا كافيتريا في طريقهما، جلسا في ركن هادئ، سأل نفسه إذا كان يتصرف بحكمة، هل الحديث مع مهندسة جديدة خبراتها في العمل و في الحياة محدودة و تصغره بحوالي عشر سنوات سيفيد بشيء، أدرك أنه يود التحدث معها ليس من أجل رأي أو نصيحة إنما لمجرد أن يحكي ان يجد من يشاركه مشاكله، هو لا يحب أن يتحدث عن مشاكل العمل مع أحد في أسرته، و ليس له أصدقاء مقربين كي يحكي لهم عن همومه، و كما لو كانت هذه أول مرّة يدرك أن ليس له أصدقاء بسبب إنشغاله التام في عمله. سألته و على وجهها إبتسامة مشجعة:
ـ خير.
ـ تفتكري تصرفاتي في الورشة و في الشركة عموما عادية، شايفة إن فيه حاجة غلط في تصرفاتي؟
فكرت قليلاً ثم قالت:
ـ ده سؤال كبير و صعب، مافيش حد يقدر ينتقد مجهودك و نجاحك في الورشة، لكنك ساعات بتتصرف بطريقة غير تقليدية.
ـ زي إيه.
ـ مثلا العامل الصغير الجديد إللي زوغ من الورشة و راح يتمشى بين مباني الشركة، بدل ما تعطيه جِزا إنت زعقت فيه و قلت له إنك حتكسر رقبته لو كرر الغلطة دي ثم ضربته بالشلوط قدام باقي العمال، يتهيألي ده إسلوب المعلمين في الورش الصغيرة مش إسلوب مهندس في ورشة في شركة كبيرة.
ـ مش كده أحسن له من خصم يومين من مرتبه؟
ـ أنا ما بقولش أحسن أو أوحش، مجرد طريقة غير تقليدية، حاجة ثانية الساعات الطوال إللي بتقضيها في الورشة بتوحي إن ما لكش حياة خاصة و دي البعض يبص لها على إنها حاجة غريبة.
ـ إنت عارفة ليه أنا بقضي وقت طويل في الورشة؟ علشان عندي شعور يمكن يكون ساذج ـ في الواقع هو ساذج ـ إن ما حدش في البلد بيشتغل ما حدش بيهتم بعمله و بياخده بجدية، فأنا بشتغل علشان أعوض تسيب و كسل و تهريج ملايين المصريين. الموضوع المهم هنا هو توقعي إن إدارة الشركة حتضرني، عندي شعور إنهم ممكن ينقلوني من الورشة نتيجة إني بانتقد تصرفاتهم، أكيد بيبصولي على إني متهور و أحمق و جايز مجنون.
ـ إنت تعرف «ڨـان جوخ»
ـ سمعت عنه كان رسام، إيه علاقته بكلامنا.
ـ كان واحد من أشهر و أمهر الرسامين، أعماله في منتهى الجمال، لكن الناس إللي حواليه لم يفهموه و البعض إعتبره مجنونا و إنتهى به الأمر إنه إنتحر.
إبتسم قائلا:
ـ ما تخافيش، أنا مش حنتحر، و ما أعتقدش إن فيه حد مش فاهمني، الناس إللي في الإدارة فاهمني كويس إنما مش عاجبهم إعتراضي على تصرفاتهم.
ـ و حتعمل إيه في موضوع نقلك من الورشة.
ـ مش عارف، بأسأل نفسي هل هم من الغباء إنهم ينقلوني و يثيروا غضب العمال.
في نفس الوقت لازم يعملوا مني مثل لأي واحد يتحدى سيادة اللواء رئيس مجلس الإدارة.
ـ أنا شايفة إن هناك نوع من المثالية و الرومانسية في تصرفاتك، خليك زي ما إنت لأنك لن تتغير، لو تغيرت حتبقى مش إنت.
قبل أن ينصرفا قال لها:
ـ متشكر على سماعك لِيّه، أنا كنت محتاج أتكلم مع حد. على فكرة وجودك في الورشة أضاف حاجة جميلة و رقيقة كانت بتنقص الورشة.
صباح اليوم التالي ذهب لمبنى الإدارة لقضاء بعض الأعمال الإدارية، عندما عاد
قابله ملاحظ الورشة كان منفعلا، قال له:
ـ و إنت مش موجود مدير الإنتاج دخل الورشة و معاه المهندس الجديد إللي إتنقل للشركة من كذا شهر و إللي بيشتغل في الإدارة، كان بيفرجه على الورشة و يشرح له ما فيها، العمال حسوا إن الموضوع غريب إن مدير الإنتاج بيدي جولة في الورشة لمهندس من الإدارة، معناها إنهم حيعينوا المهندس ده رئيسا للورشة بدل منك.
قاطعه:
ـ و إيه عرّف العمال باحتمال إن الإدارة تنقلني؟
ـ أنا، لما إنت قلت لي على الموضوع ده إتكلمت فيه مع بعض العمال و أعتقد إن الورشة كلها دلوقتِ عارفة، المهم إن أثناء ما الإثنين ماشيين بين الآلات واحد من العمال زعق «مافيش تغيير في إدارة الورشة» واحد تاني رد عليه «مهندسنا حيفضل معانا»، كان فيه نوع من الغضب المكتوم بين العمال لكن أكيد مدير الإنتاج شعر بالغضب ده، فقطع الجولة بسرعة و خرج مع المهندس إللي معاه.
رد بحزم على الملاحظ:
ـ مش عاوز الموضوع ده يكون سبب في إنصراف العمال عن أعمالهم. كل واحد يشتغل عادي و يركز على الشغلانة إللي معاه.
صعد لمكتبه، حاول ألا يشغل باله بزيارة مدير الإنتاج للورشة، دخل عليه واحد من مهندسيه و قال له:
ـ من دقائق إتصلت بي سكرتيرة رئيس مجلس الإدارة، فيه إجتماع دلوقت في مبنى الإدارة و مش عارف ليه طلبت مني أنا إني أحضره ممثلا لورشتنا.
صدمه الخبر، الإدارة كشرت له على أنيابها و تريد أن تهمش دوره، تعمد ألا يظهر غضبه، بهدوء قال للمهندس:
ـ ماشي، روح إحضر الاجتماع، أعتقد إنك عارف موقف الأشغال المهمة إللي في الورشة و تقدر ترد على كل الاستفسارات.
شعر بالضيق و بقلة الحيلة، نزل للورشة كي يأخذ أفكاره بعيدا عن المشاعر السلبية التي إنتابته، أمضى ما يقرب من ساعتين بين الآلات و العمال، يتحدث معهم، يراجع الأعمال المهمة التي ستشحن للعملاء غدا، بعضهم قالوا له عبارات التأييد و أنه سيظل دائما مهندسهم، لم يرغب في أن يكون هذا الموضوع محور كلامه معهم.
شعر بالإرهاق و بصداع يشتد مع الوقت، توجه إلى مكتبه، زاد الأمر سوءً و شعر بتنميل في ذراعه، إتصل بممرضة الشركة التي حضرت لمكتبه، تحدثت معه فوجدت أن حديثه بدأ يصبح غير مفهوم و مشوش. بخبرتها أدركت أنه يتعرض لسكتة دماغية خفيفة، حادثت مدير الإنتاج هاتفيا لتخبره أنها ستطلب عربة الإسعاف، قال لها أنه سيقوم بذلك، بعد حوالي ربع ساعة حضرت عربة نزل منها شخصان أحدهما طبيب يرتدي معطفه الأبيض و يمسك في يده حقيبة جلدية، قابلهما مدير الإنتاج على باب الورشة و تحدث للطبيب حديثا قصيرا ثم إنصرف، صعد الطبيب إلى المكتب، تحدث مع ممرضة الشركة التي أخبرته أن ضغط الدم عالي جدا و أن كلام المهندس مشوش. حقنه بدواء يخفض الضغط و يجعله مسترخيا. نظر هو لما يدور حوله نظرة مغيبة مستسلمة.
قال الطبيب أن الحالة تستدعي إصطحابه للمستشفى، الرجل المرافق للطبيب ضخم و على وجهه ملامح حزم عدوانية وضع يده على ذراع المريض وقاده من مكتبه إلى العربة المنتظرة أمام الورشة.
تريز منفعلة، طلبوها في مبنى الإدارة و أخبروها بأنها ستنقل من ورشة الآلات و أعطوها خطاب من الإدارة يفيد بذلك، شاهدته يخرج من مبنى الورشة، توجهت إليه لتخبره و تشكي له لكنها لاحظت مرافقيه، الطبيب و الآخر الذي يضع يده على ذراعه، نظر لها، حاول أن يستجمع أفكاره و يركز، قال لها بصوت ضعيف مرهق:
ـ تأكدي أن الأعمال اللي مفروض تتشِحِن بكرة حتخلص النهاردة، شغلي العمال ساعات إضافية لو إحتجتي.
دفعه مرافقه داخل سيارة المستشفى بحزم، ركب الطبيب بجانبه، إنطلقت السيارة. قرأت تريز على جانب السيارة العبارة «المستشفى العام للأمراض النفسية و العقلية».