بقلم: ادوارد ثابت
ملخص العدد الماضي
وقد ترجم قصيدة البحيرة للشاعر الفرنسي لامارتين شعراً الدكتور العراقي بهجت عباس ، وهي فيها بعض أحساسيس لامارتين ، ولكن فيها تلك الصعوبة التي تفصح مفرادتها عن مفردات القصيدة الرئيسية للأختلاف بين قواعد الشعر الفرنسي وقواعد الشعر العربي وهي قوية في بنائها وألفاظها ولكن بها بعض القصور في اللغة والأختلاف في الترجمة وشئ من التناقض في المضمون والشطط في الصور الشعرية ورغم قوة هذه القصيدة مع ما بها فلا تتماشى ترجمة القصيدة الشعرية من لغة إلى لغة شعراً فهي قد تفسد أو تفقد منها الكثير أو تصضيف إليها ما ليس بها فكأنما الشاعر في مثل تلك الترجمة يترجم مضمون النص وليس النص كما هو موضوع إن صح أن تكون الترجمة للمضمون .
اما قصيدة الدكتور نقولا فياض التي ترجمها نقولا فياض فهي كقصيدة بهجت عباس من بحر البسيط والتزم فيها بقافية واحدة هي الياء والنون المقصورة ، وتبدو فيها قدرة الشاعر على كتابة الشعر العمودي الموزون والمقفي ، ولكنها لا تخلو من ذلك الأختلاف في الترجمة من مفرادتها ومفردات قصيدة لامارتين ، ولا تخلو معه في التضارب بينهما في المضمون بل والتغاضي أو الشطط أضطراراً أو سهراً عن صحة ألفاظ اللغة العربية بل والزلل فيه . فأنظر إليه في ذلك الجزء الذي يقول فيه لا مارتين للبحيرة وكأنما يشهدها على ما كان فيه وبين حبيبته :
عندما كنت تنسابين تحت هذه الصخور العميقة
وتنكسرين على جوانبها المفتتة وتطرح الرياح رغوة أمواجك على قدميها المعشوقين
فإذا الدكتور نقولا فياض يقول في قصيدته
وفوق شاطئك الأمواج ما برحت تلاطم الصخر حينا والهوا حينا
وتحت أقدامها يا طالما طرحت من رغوة الماء كف الريح تأمينا
فعلى الرغم من أن هذين البيتين يقتربان شكلا مما يقوله لامارتين ولكنهما يختلفان عنه في المضمون ويختلفان عنه في الصورة الشعرية بينهما بل يتناقضان – فهو يقول في البيت الأول أن الأمواج تلاطم الصخر والهواء ، فالهواء الذي يلطم الموج وليس العكس كما يقول علماء الطبيعة – ثم يصحح ذلك في البيت الثاني فيتناقض في تصحيحه ويقول أن الريح وهي الهواء الذي يتحرك هي التي تطرح رغوة الماء التي تأتي بها الأمواج ، أما من ناحية ألفاظ البيتين فلا غضاضة في أن يزيل الهمزة من لفظة الهواء – أما التلاطم فهو يوحي بالعنف مما لم يكن بقصيدة لا مارتين الذي يوضح انسياب موج البحيرة في رقة تحت هذه الصخور – ثم يقول أن الريح رغوة الماء تحت أقدامها وكان الأفضل أن يقول فوق أقدامها كما يوضح لامارتين ولن يغير ذلك من وزن البيت ، وحتى لو قال ذلك فيظل في البيت الثاني أمرين أو ثلاثة بهم شئ في الخلط في الشكل واللغة والقافية أما الأول فهو عندما يقول تحت أقدامها ، فالفتاة ككل الناس لها قدمان فقط وليس اقدام ، والثاني يقول فيه طرحت من رغوة الماء فكان الأولى به أن يقول طرحت رغوة الماء أو برغوة الماء فطرح الشئ أو به اي ألقاه ، والثانية لن تغير في أوزان البيت ثم لفظ تأميناً الذي أنهى به البيت زائد لا يضيف شيئاً أضطر إليه الشاعر حتى يلتزم بالقافية التي وضعها للقصيدة فكان الأجمل ان يقول مثلاً تزيينا ليوضح أن رغوة الماء على قدميها تزينهما ، ثم بعد كل ذلك ينسى الشاعر التغزل في قدميها اللتين يعشقهما لامارتين فيقول عنهما المعشوقنين ، وغزل لامارتين يوضح هيامه بمحبوبته وبكل جزء فيها وهذا ما لم يبرزه الشاعر عندما ترجم القصيدة . ويستفيض الدكتور نقولا فياض في قصيدته فيقول في بيت منها :
والبر والبحر والأفلاك معنا فلا شئ يليها ويلهينا
فاين البحر في قصيدة لامارتين فهو لم يتحدث عنه ولم يلمح وإنما حديثه عن البحيرة وما حولها إلا إذا كان الدكتور فياض لا يهمه الفرق بين البحيرة والبحر ، ثم إذا هو يُسكَّن العين في لفظة معنا في الشطر الثاني من البيت ، وهو أستخدام نادر وقليل ولا سيما في العصر الحديث ، فهي غالباً منصوبة العين وتسكينها لغة لبني ربيعة وتميم كما يقول لسان العرب وهم من القبائل العربية ، فبنو ربيعة كانوا يسكنون الحجاز ثم تفرقوا في إنحاء الجزيرة العربية – أما تميم فكانت منازلهم بنجد والبصرة واليمامة ثم أنتشروا في أنحاء نجد والعراق وغيرهما من البلاد العربية .
ويقول في جزء ثان من القصيدة يستجدي فيه الزمن
خذ الشقي وخذ معه تعاسته وخلنا فهناء الحب يكفينا
وهذا فيه أختلاف بعض الشئ عما يقول لامارتين من ناحية ، وفيه تطابق معه من ناحية ثانية ، فلامارتين يستجدي الزمن وساعاته يلقي عليها حديث هكذا : يكفي التعساء على الأرض يتوسلون إليك ، ما جرى وأجرى عنهم من أجلهم وخذي مع أيامهم الآلام التي تطحنهم ، وأنسى السعداء فالجزء الذي الذي يقول فيه الشاعر خذ معه تعاسته والذي يُسَكَّن فيه العين في (معه) كلفه بني ربيعة وتميم ينطبق على ما يقوله لامارتين أما خذ الشقي ففيه هذا الأختلاف فه غامض لا يفهم منه أين يأخذ الشقي وكيف يأخذه وماذا يفعل به ولماذا ؟ كما أن ذلك لا ينطبق على المضمون الذي يفصح عنه لامارتين في قصيدته . ثم ينهي الدكتور نقولا فياض قصيدته فيقلب نهايتها قلباً يختلف بل يتناقض مع لامارتين الذي يقول : فليقل كل ما يسمع ويرى ويستنشق : لقد تحابا أو كانا عاشقين ، فإذا المترجم يضرب بذلك عرض الحائط كما يمثل به البعض فيبرز بروزاً جلياً أن الأثنين قد لقيا حتفهما فأنظر إلى بيت قصيدته الأخير يقول فيه :
أحبها وأحبته وما سلما من الردى رحم الله المحبينا
فإذا هو وكأنما يقول ذلك من عنده فيعرض وينأى عما بقصيدة لامارتين بل يختلف عنها ويتناقض معها . أرأيت برغم قوة هذه القصيدة في بنائها وتراكيبها مثلما رأيت في القصيدة السابقة كيف لا تتواءم ولاتصح ترجمة القصيدة الشعرية من لغة إلى لغة بالشعر ، فهي قد تفسد وتفقد منها الكثير من ناحية وتضيف إليها ما ليس بها من ناحية ثانية فكأنما الشاعر في مثل تلك الترجمة كما فعل من قبله ينشئ قصيدة من نفسه أو يسعى فيترجم مضمون النص وليس النص مثلما هو في القصيدة الرئيسية إن صح أن تكون الترجمة للمضمون . ولهذا نحن نفضل أن تترجم هذه القصيدة ومثلها نثراً ، وقد قرأت ما ترجمه البعض لهذه القصيدة فهناك من ترجمها من تونس وهناك من ترجمها من المغرب ومن مصر . اما من هو من تونس فهو الكاتب سعيد محمد الجندوبي ن وترجمته جيدة شاكل قصيدة لامارتين في هيأتها ، فقد وضعها على هيئة مقاطع أو أجزاء مثلما يضع لامارتين قصيدته ، وترجم كل جزء منها بما بماثله فيها . والترجمة جيدة في لغتها وفي أسلوبها وبها ففيهما مواضع قيمة ، ولكن بها ما نتحفظ فيه بعض الشئ . أما المواقع القيمة فمنها عندما يقول لامارتين : ايها الزمن عطل سرقتك أو عدوك يقول المترجم : أيا دهر رويدك ، وهي جملة رقيقة توحي اشد الإيحاء بما يرغب منه الكاتب في أن يلقيه الكاتب على الزمن وعندما يقول لامارتين : يكفي التعساء على الأرض فيتوسلون إليك ، اجرى وأجري من أجلهم ، وخذي مع أيامهم الآلام التي تلهمهم وأنس السعداء يقول المترجم بشكل جيد على الرغم من أن حديثه يلقيه على الدهر فيضع المخاطب مذكراً بينما لامارتين يلقي حديثه على ساعات الزمن وهي مؤنثة ، فإذا هو يقول : كم من البؤساء في هذه الأرض يستجدونك ، أطلق عنانك من أجلهم ، خذ مع أيامهم مآسيهم التي باتت تنهشهم ، وأنس السعداء . وعندما يتحدث لامارتين إلى البحيرة وإلى ما حولها فيحثهم ويقول : أحفظوا من هذه الليلة وأحفظها ايتها الطبيعة الجميلة على الأقل التذكار ، في صفائك وفي عواصفك وتلالك الضاحكة …. يقول المترجم في أسلوب رصين : أحفظي أيتها الطبيعة الغنَّاء ، على الأقل الذكرى ، لتكن في سكونك ، لتكن في عواصفك أيتها البحيرة الجميلة وفي منظرتلالك الضاحكات ، ولكنه يقول عن الطبيعة غنَّاء ، وهذا ليس عيباً في الترجمة ويستخدم كثيراً للطبيعة والمترجم يخصها به ، أما لامارتين فلا يربطها بالغناء ، وإنما يقول عنها الجميلة ، والجمال يشمل أشياء كثيرة ، أما الغناء فهو يشمل التطريب فقط . وعلى الرغم من أن هذه الترجمة قد رآها الدكتور إبراهيم عوض وحققها إلا أن هناك فيها بعض ما نتحفظ منه .فبينما يقول لامارتين في قصيدته يحاكي به البحيرة : أترين ، لقد جئت الأن وحدي أجلس على هذه الصخرة التي رايتها تجلس عليها يكتب المترجم وأنظري ، ها أنا اليوم جئت وحيداً لأجلس على تلك الصخرة التي طالما رايتها جالسة عليها ، ولفظه طالما تعطي الإيحاء بمدة زمنية طويلة أو بفترات وهذا ما لم يبدو في القصيدة ثم وضع المترجم لام التعليل قبل الفعل (أجلس) فقال جئت لأجلس على تلك الصخرة ، فالشاعر لم يذهب إلى البحيرة حتى يجلس على الصخرة فقط وإنما يذهب ليستدني منها ومما حولها ما كان بينه وبين حبيبته . وجملة أجلس على هذه الصخرة تتضمن حال الشاعر ومن أنماط الحال أن يكون جملة فعلية – ولاتتضمن التعليل . ويحاكي لامارتين البحيرة وكأنما يناجيها فيقول : عندما كنت تتدفقين على جوانب الصخور العميقة الممزقة والرياح تلقي رغوة أمواجك على قدميها المعشوقتين ، فإذا الكاتب يترجم هذا الجزء من القصيدة ويقول : هكذا كنت تتحطمين على جنوبها الممزقة ، هكذا كانت الريح تلقي بزبد أمواجك على ساقيها المحبوبتين ، والتحطيم يكون غالباً للأشياء الصلبة أو الجامدة ويتفق معها إذا أتسم بها ، ولكن الأسلوب الفرنسي يختلف عن العربية فاللفظ الذي وضعه لامارتين ترجمته كنت تنكسرين Tu te brisais وهو يناسب هذا الأسلوب كأن تقول Les vagues se brisent sur les rochers اي الأمواج تنكسر على الصخور ، أما في العربية ففيها أختلاف لا يتواءم معه تكسير أو تحطيم المياه . أما لفظ ساقيها الذي وضعه المترجم فمن الغريب أن يضعه بدلاً من قدميها ، فالساق غير القدم ثم تكرار (هكذا) رغم التزام الشاعر بها في النص الفرنسي Ainsi ففيه زيادة كان يمكن للمترجم أن يتغاضاها ويستعيض عنها بالإضافة بالواو . ويقول لامارتين وكأنما هو يشهد البحيرة على ما كان بينه وبين معشوقته : هل تذكرين ذلك المساء وكنا نسبح في صمت ولا نسمع على البعد فوق الموج وتحت السماء غير غيقاع المجاديف تحف مياهك المنغمة ، فعلى الرغم من أن الشاعر يضع لفظ (صوت Bruit) وينسبه إلى من يلاعبون المياه بمجاديفهم فالمترجم يقول في ذلك : ولم يكن يصلنا من هناك من بعيد فوق الموج وتحت السماوات غير صخب المجدفين ، والصخب هو الجلبة والصياح أو علو الأصوات وأختلاطها وهذا يتناقض مع الإحساس المرهف الذي كان يضم الشاعر وحبيبته والذي يستبينه في حديثه . وفي جزء من القصيدة يستجدي فيه الشاعر الزمن أن يترفق به بألفاظ يشعر وكأنما قد أنبرت من الصوت الحبيب إليه وقد أصغى الموج إليها فيقول أن هذه الألفاظ نبرات رجعها الصدى من الشاطئ فيستخدم جملة مألوفة في الفرنسية هي Laissa tomber ces mots أي أنهمرت بلا وعي ‘ فإذا المترجم يقول / فأفض الموج ومن الصوت الحبيب تناثرت الكلمات ، ولفظ تناثر أي تفرق يتعارض مع الصوت الذي يبدو كالصدى فكان الأولى به أن يضع لفظاً غيرها كانبرت أو رجعها الصدى مع ضبطه . ويقول الكاتب بعد ذلك : عجلة الزمن تدور ونحن نمضي ، فيترك الجملة هكذا ناقصة ، ومضمونها مبهماً ، فمن الأفضل إن اضاف عليها (معها أو خلفها) ولاسيما أن الشاعر يصرح ذلك تصريحاً جلياً فيقول الزمن ليس له شاطئ فهو يجري ونحن نتبعه . وعندما يتحدث لامارتين عن الساعات الهنيئة التي يمنحها الزمن للإنسان يقول المترجم (أفلن يعيدها إلينا) من جديد فيستخدم في ذلك صيغة السؤال المنفي (أفلن) فحتى لو أن الهدف من التساؤل هو التأنيب أو الأنكار فهو يختلف عن الشاعر الذي يوضح ذلك في تقرير لا يتضمن الشك فيقول : لن يعطيها لنا ثانية . فإذا تحدث الشاعر عن التذكار الذي يستجديه من البحيرة في أن تحفظ ما كان بينه وبين حبيبته فيقول أن تحفظه في اصوات شواطئها فيضع اللفظ الفرنسي Bruits وهو في الفرنسية كل ما يسمع ويتعارض مع الصمت ، ولهذا فهو يحتمل الوشوشة مثلاً ، ولكن المترجم يقول في لفظ ضفافك فعلى الرغم من أن لفظة ضفافك عربية رقيقة أجاد فيها أما اللفظ فهو الجلبة والصخب مما يتناقض مع الإحساس الذي يبثه الشاعر إلى البحيرة ويحدثها به ، كان الأفضل له أن يستخدم هذه الوشوشة فيقول وشوشة ضفافك أو شواطئك أو غيرها مما يتواءم والمضمون . ثم ينهي الكاتب سيد محمد الجندوبي ترجمته بتلك الجملة التي وضعها معه بعض ممن ترجموا هذه القصيدة والتي يحاكي فيها الشاعر الطبيعة حول البحيرة في أن تقر أن الحب كان يربط بينه وبين حبيبته فيقول المترجم ليقل كل الوجود : لقد أحبا فعلى الرغم من أن الجملة حرفية للفرنسية Ils ont aime يتضح منها أن الشاعر أضطر إليها ليحافظ على وزن بيت القصيدة والقافية من ناحية ، وهي معهما ليس فيها القصور في الأسلوب من ناحية ثانية ، ولكنها في اللغة العربية تبدو قصيرة مقتضبة لا تعطي الإيحاء بتلك الرابطة القوية التي ربطت بين العاشق ومعشوقته ولا يؤكدها ما يسمى أو يطلق عليه التوظيف الأدبي أو اللغوي الذي يعكس الإحساس بها ولا سيما إن وضعت في نهاية النص الذي لابد في أن يكون له تأثير يضطر به المترجم إلى أن يقول : لقد كانا عاشقين أو حبيبين .
البقية في العدد القادم