بقلم: محمد منسي قنديل
كالعادة كانت رحلتهما صعبة وخطرة، ولكن الاختان كانتا متحمستين ، تريدان استكمال جغرافيا الكتاب المقدس وأن يشاهدا جبل موسى وشجرة العليق المحترقة، ويشربان من عيون موسى التي تفجرت حتى تسقي قومه في سنوات التيه، ويلمسان التربة التي صنعت منها الواح الوصايا العشر، ولكن دخول الدير لم يكن سهلا، كيف تقتحم امرأتان عالم الرهبان المتبتلين، عكفتا على تجهيز اكثر من خطاب للتوصية ، خطاب من جامعة كامبريدج، وخطاب من اسقف الكنيسة الإنجليزية، وعندما وصلتا للقاهرة سارعتا بمقابلة اسقف سيناء والحصول على خطاب ثالث منه، وخطاب رابع من المعتمدية البريطانية وهو اقواها بطبيعة الحال.
كانتا سعيدتي الحظ حين عثرتا على الترجمان المناسب، واشترتا خيمتين كبيرتين من جلد الماعز، واتفق الترجمان مع رجال البدو الذين سيقودهما، وساعدهما في احضار المعدات التي شحناها من لندن، “فلتر” متحرك لتنقية المياه، وكاميرا للتصوير وحوالي الف فيلم فوتوغرافي ، وقام الديل غير ذلك بتجهيز بقية معدات الرحلة التي كان من المقرر أن تستغرق حوالي خمسين يوما، تسعة منها للرحلة والباقي داخل الدير، وهكذا سافرتا سريعا إلى ضفة القناة ونقلتهما القوارب للضفة الأخرى، إلى سيناء، وكان في انتظارهما أحدى عشر جملا، أربعة للركوب والباقي لحمل الامتعة والصناديق والخيام والطعام واقفاص الدجاج الحية وصندوق للأدوية والمعدات الطبية، وموقد للطهي، إضافة احدى عشر بدويا من البدو يقودهم شيخهم، يرتدون جميعا عباءات بيضاء، وكان ركوب الجمل لمدة طويلة عملية غاية في الإرهاق، لذلك فضلتا السير، وبعد يوم من السير المتواصل وصلوا إلى اول نقطة في الرحلة، عيون موسى، واحة صحراوية صغيرة تروي من البئر التي تتدفق منذ آلاف السنين، وحيث شربت العذراء مريم في رحلة هروبها من فلسطين، وبعد سبعة أيام من السير الحثيث اطلوا من فوق التلال العالية على الوادي السحيق الذي يوجد فيه الدير، هبطوا في الممر المؤدي للدير، تحيط يهم أشجار السدر والزيتون، كان ديرا صحراويا بسيطا، لا يقاس بالكنائس الضخمة التي تركاها خلفهما في اوروبا، يحيط به سور عال متين ليحميه من غزوات البدو رغم أنها قليلة ونادرة، كانت هناك بوابة جديدة في السور ولم تعد هناك حاجة لرفعهما معا في السلة، واستقبلهما الرهبان بالترحاب خاصة بعد ان اكتشفوا أن انجس تجيد التحدث باليونانية وتعرف الكثير عن اخبار العالم الخارجي، ولكن لم يكن من الممكن السماح لهما بالإقامة داخل الدير، بين رهبان عاشوا معظم أعمارهم دون ان يقتربوا من امرأة حقيقية، سمحوا لهما فقط بنصب الخيام في الحديقة بجانب سور الدير والتردد على المكتبة خلال النهار.
كان الأب جلاكتون امين المكتبة قد التحق بسلك الرهبة وهو في التاسعة من العمر، دخل إلى عالم مغلق من الرجال لاهم لهم إلا الصلاة والتعبد، لذا وجد نفسه منجذبا بشدة للبقاء بجانب التوأم لأطول فترة من الوقت، لا يستطيع أن يقاوم أي طلب لهما، كانت انجيس تحدثه باليونانية عن عالم غريب لا يعرفه، ولا يتصور وجوده، اخذهما في جولة داخل الدير واراهم معالمه، البئر الذي تعرف فيه سيدنا موسى على زوجته حين رفع الحجر الذي كان يسد فوهته، وشجرة العليق الذي أمر الله موسى أن ينظر إليها فإذا النار مشتعلة فيها دون أن تحرقها، وفي اليوم التالي أخذهما للمكتبة، اخذتا تفحصان المجلدات المختلفة، كانت هناك العديد من المخطوطات ولكنها ليست نادرة، لا توازي المخطوط التي عثر عليها تشندروف، شعرتا بخيبة أمل حقيقية، لم تثمر هذه الرحلة الطويلة الشاقة شيئا، ولكن الإقامة في الخيمة كانت غاية في الصعوبة، خاصة في الليل عندما تهبط درجة حرارة الوادي إلى ما دون الصفر، ولكنهما لم تفكرا في الرحيل، ظلتا تعاودان البحث وسط الأرفف المعبأة بالغبار، والأب جلاكتون ينظر إليهما في اشفاق.
وأخيرا اعترف لهما في خجل أن هناك خزانة في بدروم اسفل المكتبة، لم يهبط إليها أحد منذ سنوات، منذ أن مات الراهب الأخير الذي كان يعرف اللغة السريانية، تلك اللغة الشرقية القديمة التي لم يعد أحد يستخدمها، وعلى ضوء الشموع هبط ثلاثتهما على الدرج الصخري، كان القبو حارا خانقا دون نسمة هواء، والخزانة الخشبية منزوية في أحد الأركان وسط بقايا اثاث محطم وصخور ناتئة، كان داخلها صندوقان من الخشب محفور عليه خطوط غائرة مليئة بالسواد، الصندوق الأول كان مليئا بصور وايقونات قديمة، اما الثاني فيحتوي على مجلدين ضخمين،
الأصغر منهما كان مكتوبا باليونانية القديمة، وبدا من قراءة العنوان أنه منقول عن احدى كتب الفيلسوف ارسطو، اما الثاني فقد كان ملتصق الصفحات، مكسو برماد اسود، ومن الصعب فتحه بالقوة وإلا تفتت الصفحات، حملوه في حذر إلى الخارج ليفحصوه تحت الضوء، في الخيمة المنصوبة في الحديقة، جلس الثلاثة متقاربي الرؤوس وهم يفتحونه، كان مكتوبا بالسريانية، صفحاته ملتصقة ببعضها بالبعض، كتلة مغطاة بتراب الزمن، ولكن كانت لهما خبرتهما الخاصة من مشاهدة وسائل حفظ الكتب كامبردج، اشعلا النار تحت وعاء صنع الشاي، والراهب يراقبهما مندهشا وهما يعرضان الصفحات الملتصقة للبخار، والغبار يذوب بنعومة دون أن يمس تماسك الصفحات، وبعد فترة بدأ المخطوط الغامض يكشف عن اسراره، كان مخطوطا عن حياة القديسات، شعرت مرجريت بخيبة أمل شديدة، كانت قد احضرت معها كل هذه الأفلام الفوتوغرافية عبثا، ولكن تعرض صفحات المخطوط للضوء والهواء النقي فعل شيئا غريبا، أصبحت السطور الظاهرة باهتة وكشفت عن سطور أخرى خلفها ، كان هناك نصا حديثا نسبيا مكتوبا فوق نص أخر اكثر قدما، في بعض الصفحات عثرتا على عنوان الصفحة، وفي صفحات أخرى عثرتا على عدة سطور في اسفلها، ومن جماع هذه السطور اكتشفتا أن النص القديم هو الانجيل، الاناجيل الأربعة المعروفة، مكتوبة باللغة السريانية، اللغة نفسها الذي كان يتكلم بها السيد المسيح، هذا يعني أنه ربما كان المخطوط يعود للقرن الأول الميلادي، قبل أن تتغير اللغة ويتغير العالم، توقف الثلاثة مبهورين وهم يلتقطون انفاسهم في صعوبة، لقد عثرتا على اقدم مخطوط مسيحي في التاريخ، ولكن كيف يمكن اثبات ذلك، كيف يمكن اخراج الانجيل الحقيقي المخفي في طيات هذه الصفحات، كانتا تعرفان أنه من المستحيل أن يخرجا بهذا الكتاب من الدير، تجربة الرهبان مع تشندروف لا يمكن أن تتكرر مرة أخري، ومهما قيل لهم من وعد فلن يثق الرهبان في العالم الخارجي، كان التصرف الوحيد أن يتم تصوير كل صفحة من المخطوط تحت ضوء الصحراء الساطع لعله حين يتم تظهير الصور تظهر سطور الانجيل، كانتا في حاجة إلى معجزة حتى يتم هذا الاكتشاف، كان لابد من تخليص الصفحات من بعضها ثم تصويرها، عمل شاق تواصل على مدى اربعين يوما في تلك الخيمة الصغيرة في حديقة الدير.