بقلم: كينده الجيوش
واقعة حكاها ابن الجوزي ..في كتاب الأذكياء أن رجلا من طلبة العلم جلس على جسر بغداد يتنزه فأقبلت امرأة بارعة في الجمال من جهة الرصافة إلى الجانب الغربي فاستقبلها شاب فقال لها: “رحم الله علي بن الجهم”، فقالت المرأة: “رحم الله أبا العلاء المعري” وما وقفا بل سارا مشرقا ومغربا. قال الرجل: فتبعت المرأة وقلت: “والله أن تقولي لي ما أراد بابن الجهم!” فضحكت، قالت: أراد به قوله:
عيون المها بين الرصافة والجسر … جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري وعنيت أنا بأبي العلاء قوله:
فيا دارها بالخيف إن مزارها … قريبٌ ولكن دون ذلك أهوال…
هذه واقعة بسيطة جميلة تعكس مدى ثقافة وذكاء اجدادنا رجالا ونساء واستخدامهم لهذا الرقي الثقافي في حياتهم اليومية.
واليوم لدينا من الأسباب لنؤمن بان روح المعرفة لا تموت .. وان تراجعت احيانا. ومنها صورة انتشرت منذ فترة قريبة من بغداد العريقة، أميرة الثقافة والكتب، تظهر فيها أعداد غفيرة من الناس ومنهم الشبان ومنهم الرجال والنساء تجمعت في شارع الرشيد الشهير في بغداد. وكانت عيونهم جميعا تشخص وأيديهم تمتد برفق الى بضاعة تم ترتيبها بشكل عشوائي او متقن على امتداد الشارع!
ولم تكن تلك البضاعة حصص غذائية مجانية او رخيصة في منطقة يعاني اَهلها من الفقر وآلام لا تحصى.. لا وبل في بلد يخشى الناس من التجمع خوفا من هجمات عشوائية تقتل الانسان وأجمل ما في الكون من قبل آلة جرمية تسمي نفسها داعش.
تجمع هؤلاء العراقيون على مختلف مشاربهم لينظروا ويقرأوا ويتمعنوا بكميات كبيرة من الكتب المعروضة على الأرض
انها روح الثقافة وروح القراءة التي لم تتمكن عقود كثيرة من الحروب والاضطهاد والحكومات الديكتاتورية والطفرات العنفية المريضة مثل داعش ان تقتلها في هذا الشعب… صورة تثلج الصدر وتبعث الأمل في الجيل القادم..
العراق الذي كانت ابنته نازك الملائكة هي سيدة الشعر العربي الحديث وأوائل مؤسسيه!! العراق الذي أنجب حديثاً بدر شاكر السياب وحضن الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا. وأنجب معروف الرصافي ومظفر النواب الذي عاش في دمشق وأحبها مثلما أحب بغداد وكانت منفاه ولكنها كانت الام وكانت الام مرة اخرى….
طوائف متنوعة من الأدباء والأدب.. هم أبناء العراق. واليوم يقول العراقيون بان روح العلم والمعرفة هي جزء من دمهم ولن يغيرها الالم والحرب. روح المعرفة التي لم يستطع حتى هولاكو وجبروته وعنفه الدموي البشع
ان يقتلها.. عندما دخل هولاكو بغداد احرق مكتباتها وألقى بكتبها في نهر دجله .. وتحول لون دجلة الى اسود من كثرة الكتب التي ألقيت فيه.
ولكن العراقيين شربوا مياه دجله وتشبعوا بروح الأدباء والمثقفين والعلماء والكتب.
رغم المآسي ورغم حجم المصيبة يتمسك العراقيون اليوم ونتمسك نحن ببوادر يوم جديد ونأمل انه سيكون الأجمل.






























