بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
علاقة الرئيس الأميركي جو بايدن برئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو تعود الى بداية ثمانينيات القرن الماضي، عندما كان بايدن عضوا في مجلس الشيوخ الأميركي ونتنياهو دبلوماسيا رفيعا في سفارة إسرائيل في واشنطن، وبعد ذلك مندوب إسرائيل الدائم لدى الأمم المتحدة في نيويورك حتى العام 1988.
مع أن بايدن يُعتبر من أكثر السياسيين الأميركيين تأييدا لإسرائيل وأكثر رئيس أميركي دعمَ الدولة العبرية، إلا أن علاقته مع نتنياهو تميزت بالعديد من التقلبات بين تقارب وتباعد، وهي الآن تشكو من التوتر الحاد على خلفية حرب إسرائيل على قطاع غزة التي خلفت حتى الآن ما يزيد عن 35.000 قتيل و78.000 جريح، علما أن معظم هؤلاء الضحايا الفلسطينيين هم من النساء والأطفال.
لقد سبق أن علق بايدن منذ زمن على إحدى صور نتنياهو التذكارية حيث كتب:”عزيزي بيبي، أنا لا أوافق على شيء مما تقوله، ولكني أحبك”.
عندما كان بايدن نائباً للرئيس أوباما، قام بزيارة رسمية الى إسرائيل عام 2010 وكانت سياسة الولايات المتحدة في ذلك الوقت وما زالت حتى الآن رفض إقامة مستعمرات إسرائيلية جديدة في القدس الشرقية والضفة الغربية. وأثناء وجود بايدن في إسرائيل، وفي تحد واضح للإدارة الأميركية، أعلن نتنياهو، الذي كان رئيسا للحكومة الإسرائيلية في تلك الفترة، تدشين ألف وستماية وحدة سكنية جديدة في القدس الشرقية، ما أثار غضب بايدن الذي قفل راجعا الى واشنطن.
وبعد ذلك بخمس سنوات، عندما كانت الولايات المتحدة تفاوض ضمن الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا مع إيران لعقد الإتفاقية النووية، وقبيل انتهاء المفاوضات، حضر نتنياهو الى واشنطن في شهر فبراير 2015، بدعوة من أعضاء في الكونغرس الأميركي ودون التنسيق مع البيت الأبيض، وألقى خطابا قويا في الكونغرس ضد الإتفاقية، ولم يستقبله آنذاك لا الرئيس أوباما ولا نائبه بايدن، وقد عمقت هذه الزيارة التوتر في العلاقات الشخصية بين نتنياهو وبايدن.
وفي صيف عام 2023، عندما بدأ نتنياهو مساعيه لتعديل قوانين المحكمة العليا للتهرب من عواقب محاكمته وربما سجنه بتهمة الفساد، وعلى اثر تظاهر مئات آلاف الإسرائيليين ضده لأسابيع متتالية، اتصل بايدن بنتنياهو ليحذره من أن تدخله في شؤون المحكمة العليا وقوانينها من شأنه أن يقوض الديوقراطية في إسرائيل، ولم تكن هذه المكالمة بينهما ودية وفقا لمصادر أميركية في حينه.
ومن تداعيات سوء العلاقة بين نتنياهو وبايدن أن هذا الأخير لم يستقبل نتنياهو في البيت الابيض بعد تسلمه رئاسة الحكومة من جديد في شهر نوفمبر 2022 بل اكتفى بعقد اجتماع معه في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 20 سبتمبر 2023 وقد كان ذلك أول اجتماع بينهما منذ عودة نتنياهو الى رئاسة الحكومة الإسرائيلية. هذا مع العلم ان غالبا ما يدعو الرئيس الأميركي رئيس وزراء إسرائيل الى البيت الأبيض بعد تسلمه رئاسة الحكومة بفترة قصيرة.
في خلال اجتماعهما في نيويورك، وجه الرئيس بايدن دعوة الى نتنياهو ليزور البيت الأبيض قبل نهاية عام 2023، ولكن أحداث السابع من أوكتوبر وحرب إسرائيل على قطاع غزة حالت دون تمكن نتنياهو من تحقيق هذه الزيارة.
ولكن بعد أن قامت حركة حماس بهجومها المفاجئ وما نتج عن ذلك من ضحايا إسرائيليين، لم يتأخر الرئيس بايدن في إعلان تأييده التام والمطلق لإسرائيل بقيادة نتنياهو، وأرسل أكبر حاملة طائرات حربية في العالم الى الشواطئ الإسرائيلية كما أوفد وزير خارجيته لتأكيد الدعم الأميركي اللامحدود للدولة العبرية، وقام بزيارة تل أبيب بعد أيام على الهجوم الفلسطيني متجاوزاً كل خلافاته السابقة مع نتنياهو حيث عانقه مؤكدا من جديد وقوفه ووقوف الولايات المتحدة الى جانب إسرائيل وتقديم كل وسائل الدعم العسكرية والمالية دون حدود.
وقد تلا زيارة بايدن الى إسرائيل قيامه بإيفاد كبار معاونيه في البيت الأبيض وفي طليعتهم وزير الدفاع لويد أوستن ومستشار الأمن القومي جايك سوليفان ووزير الخارجية أنتوني بلنكن عدة مرات وغيرهم لتأكيد وقوف الولايات المتحدة بالكامل الى جانب حليفتها في الشرق الأوسط، معلناً ان إسرائيل بعد أن باشرت حربها على قطاع غزة ليس لديها الحق في الدفاع عن نفسها فحسب، بل ان عليها أيضا الواجب بالقيام بذلك. وقد توالت شحنات الأسلحة من واشنطن الى تل أبيب دون توقف.
ولكن بعد أن بدأت تنتشر أنباء تدمير المستشفيات والمدارس والمساكن وقتل المدنيين الفلسطينيين من نساء وأطفال بالآلاف، بدأت الدول الحليفة لإسرائيل بانتقاد نتنياهو والولايات المتحدة التي تزوده بالأسلحة الفتاكة، كما بدأت حملات داخل الولايات المتحدة وخاصة من قبل الجاليات العربية والإسلامية وعناصر الشباب بتوجيه انتقادات قوية للرئيس بايدن لوقوفه الى جانب نتنياهو، كما أن بعض أعضاء في مجلس الشيوخ من داخل الحزب الديمقراطي بدأوا بالإعراب عن غضبهم تجاه نتنياهو وبايدن. وجدير بالإشارة هنا استمرار عضو مجلس الشيوخ السيد بيرني ساندرز اليهودي في انتقاد نتنياهو بصورة شبه يومية مطالبا الرئيس بايدن بوضع شروط قاسية على نتنياهو قبل إرسال الأسلحة الى إسرائيل وفي حال عدم تجاوب نتنياهو مع هذه الشروط إيقاف المساعدات العسكرية والمالية عن الدولة العبرية.
كذلك عقد زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر مؤتمرا صحافيا أكد فيه أن نتنياهو لا يهمه إلا مصلحته في البقاء في الحكم وأنه عقبة في طريق السلام مطالبا بإجراء انتخابات مبكرة في إسرائيل لإزاحة نتنياهو، والجدير بالذكر هنا هو أن تشاك شومر هو أيضا يهودي ويمثل ولاية نيويورك التي فيها 20% من اليهود الأميركيين.
في هذه الأجواء بدأ بايدن يصدر بيانات وتعليقات منتقدة لنتنياهو ويطالب بفتح المعابر لإدخال المواد الغذائية والأدوية الى القطاع وحماية المدنيين، ولكن نتنياهو لم يكن ليلبي أيا من هذه المطالب الأميركية، ويصر على استمرار الحرب حتى “القضاء على حماس” والتقدم نحو رفح غير عابئ بقتل المزيد من النساء والأطفال وتدمير المنشآت الفلسطينية المدنية.
إلا أن غضب بايدن من نتنياهو بلغ ذروته عندما قتلت إسرائيل سبعة من المساعدين الإنسانيين التابعين لمؤسسة “المطبخ المركزي العالمي” والذين كانوا يوزعون مواد غذائية للفلسطينيين في شمالي القطاع. عندئذ، وجه بايدن تحذيرا واضحا لنتنياهو بضرورة حماية المساعدين الإنسانيين وكافة المدنيين الفلسطينيين وفتح المعابر وعدم اجتياح رفح وضرورة تطبيق حل الدولتين عبر إقامة دولة فلسطينية، ولكن نتنياهو استمر في مواقفه الرافضة لجميع المطالب الأميركية معلنا بكل وقاحة أن لا أحد يملي على إسرائيل أوامره حتى وإن كان من أقرب الأصدقاء.
يعتقد العديد من المراقبين أن نتنياهو، بعد شعوره بأنه أصبح منبوذا حتى من مؤيدي إسرائيل، قام بقصف القنصلية الإيرانية في دمشق وقتل عدد من حراس الثورة الإيرانية من أجل استدرار ردة فعل ضد إسرائيل تعيد اليه بعض التأييد، وهذا ما حصل فعلا عندما ردت إيران
على عملية دمشق بإرسال مئات المسيرات والصواريخ مباشرة الى إسرائيل حيث هبت الولايات المتحدة بقيادة بايدن ودول أخرى الى حماية إسرائيل مثلما فعلت في السابع من أوكتوبر.
من المؤكد أن علاقة بايدن المتوترة مع نتنياهو لم ولن تؤثر إطلاقا على علاقته المؤيدة لإسرائيل بصورة مبدئية ومطلقة، وهو القائل منذ سنين أن الولايات المتحدة بحاجة الى إسرائيل اكثر مما إسرائيل هي بحاجة الى الولايات المتحدة، وانه لو لم تكن إسرائيل موجودة لوجب على الولايات المتحدة إيجادها. كما انه قال عند هبوطه في مطار بن غوريون في شهر مايو 2022 في أول زيارة له الى إسرائيل كرئيس للولايات المتحدة: “أنت لست بحاجة ان تكون يهوديا لتكون صهيونياً. أنا صهيوني”. وخير دليل على ذلك إستمرار بايدن بإرسال المساعدات العسكرية والمالية لإسرائيل بالرغم من استمرار نتنياهو بعدم تلبية طلبات ورغبات الرئيس الأميركي وإظهاره بالرئيس الضعيف خاصة في هذه السنة الإنتخابية حيث يتعرض بايدن لانتقادات حادة من أخصامه الجمهوريين وفي طليعتهم الرئيس السابق دونالد ترامب الذين يتهمونه بعدم تأييد إسرائيل بما فيه الكفاية لمجرد انتقاده نتننياهو وتأخير إرسال شحنة أسلحة هجومية للضغط على نتنياهو لعدم اجتياح رفح.
في الختام يمكن القول ان علاقة بايدن بنتنياهو هي بصورة عامة متوترة، ولكن بايدن يتجاوز كل خلافاته مع نتنياهو كلما شعر ان مصلحة إسرائيل تقضي بذلك، وهو يعتقد الآن ان نتنياهو يعطي مصلحته الشخصية في البقاء في الحكم أولوية على مصلحة إسرائيل، ولذلك فهو يحاول ان يثنيه عن بعض التصرفات التي يعتقد انها تضر بمصلحة إسرائيل مثل اجتياح رفح وقتل المدنيين الفلسطينيين ورفض حل الدولتين. ونتنياهو من جهته يرى مصلحته مع ترامب الذي اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل عندما كان رئيسا ونقل السفارة الأميركية اليها وألغى مسألة حل الدولتين واعترف بالجولان السورية على انها أراض إسرائيلية، ولذلك من المرجح ان يستمر نتنياهو بحربه على غزة الى حين اقتراب موعد الإنتخابات الأميركية في نوفمبر القادم لإضعاف بايدن أكثر وأكثر وتأمين فوز حليفه وصديقه ترامب، كل ذلك في الوقت الذي سيستمر فيه بايدن بدعم إسرائيل من منطلق كونه صهيونيا وتعلقه بالدولة العبرية، وفي كل ذلك تناقض قوي يصعب فهمه، خاصة بعد قيام بايدن بالدفاع مجددا عن نتنياهو على اثر قرب صدور قرار المحكمة الجنائية الدولية لاعتقاله.