بقلم: تيماء الجيوش
وسواء قلنا عنف طائفي، صراع طائفي، توتر طائفي، أو استقطاب طائفي فهذه جميعاً تُعدّ من أشكال العنف المجتمعي الناتج عن التمييز ، الكراهية، و التعصب الأيديولوجي أو الديني في هذا المجتمع أو ذاك.و ما يدفع بالعنف الطائفي نحو درجات غير مسبوقة أحياناً هو الصراع على السلطة السياسية، البقاء في السلطة ، البيئة السياسية ، البيئة الاجتماعية، الثقافية ، والاقتصادية.
في الملف السوري ، لا احد ينوء عن حقيقة أن هناك تعدداً سورياً طائفياً و عرقياً، عاش هذا النسيج طويلاً عبر تاريخٍ غير بعيد حيث تجمعه قيم إنسانية أساسية ، و هذا لم يأتي من فراغ ، ربما جاء بسبب موقعها الجغرافي وهي البوابة الشمالية للعرب و جزء من صلة بين قارتين فكانت مهداً للعديد من الهجرات و اللجوء الذي اقترن بحروب عالمية و مجاعة و موجات لجوء ، فكان أن نجم عن هذا كله التشبث في التعايش و القيم الإنسانية و التسامح .
أما سياسياً فهناك حقيقة أخرى تتعلق به، في تاريخ سوريا القريب كانت مسألة البقاء على رأس الهرم السياسي و الإمساك بزمام السلطة منذ وصول عائلة الأسد إلى سدة الحكم هي مسألة مركزية، كانت مسألة أن يكون النظام أو لا يكون، البقاء في السلطة بأي ثمن و باستخدام كل ما يتوفر من ذرائع . لم يقتضي الأمر وقتاً سريعاً ليعي العديد من السوريين أن النظام الساقط لم تكن لديه أية أولويات تتمحور في العدالة الاجتماعية و تعزيز النسيج المجتمعي من خلال القوانين و احترامها لمبدأ المساواة و عدم التمييز ، ففي هذا ما ينافي طبيعته كنظام، بل كان في استخدام الطائفية و تكريس الانقسام في المجتمع هدفاً و محوراً يستند إليه في مسألة بقائه و استمراره ، و يؤكد دوره كسلطة ، تلك السلطة القادمة من الطبقة البرجوازية الصغيرة في أدنى درجاتها و التي تلجأ للدين مرة ، وللقومية مرات أُخر لتعزيز مكانتها و الإمعان في الاستغلال كيفما اتفق وكان الظرف الذي يدفع بهذا أو ذاك . و على امتداد العقود الخمسة و النصف لم يُحتسب له أي النظام أية مبادرة في حيّز منع التمييز ، بل على العكس تماماً كان هو أي النظام من يغذي منهجياً الطائفية كي يضمن البقاء على رأس السلطة. و بالنتيجة لم تكن هناك من قوانين تدعو إلى منع الطائفية، العقوبة على مرتكبيها و المحرضين عليها. لعل المفارقة المؤلمة في عملي وأنا والعديد من الزملاء بالمحاماة و احترام دور القانون أن هناك مادة وحيدة في القانون و هي إثارة النعرات الطائفية التي كان يتم استخدامها ضد معارضي النظام لزجهم في السجون و تعذيبهم و حرمانهم من ابسط الحقوق المدنية عند ممارستهم لحرياتهم في التعبير عن الرأي أو التجمع .
احترقت سوريا رويداً رويداً بحربٍ ذات جبهاتٍ متعددة كان العمل العسكري فيها يتقدم بثبات لإيذاء السوريين، وبات التكيف صعباً مع التحديات التي تواجه الجميع من ابسط التفاصيل إلى اعقدها من ذهاب طفل إلى المدرسة ، العمل، العيش اليومي إلى إعادة إعمار و تعافٍ اجتماعي و اقتصادي و سياسي. تحّولت مواجهة التحديات لدى السوريين إلى مدعاةٍ للفخر و هوية و كيف لا و هو من أنهى ديكتاتورية رثة ، فهو رغم العنف ورغم العقوبات الاقتصادية و رغم القصف لا زال حياً و يعمل من اجل عودة الحياة كما كانت.
في خضم هذا كله ثار العنف و بشدة في منطقة الساحل السوري ، رافقه تجييش طائفي و تحريض وجد له مساحات غير محدودة في وسائل التواصل الاجتماعي ، لم يتوقف و كذلك دماء السوريين لم تتوقف. سقط أطفال و نساء و شيوخ في مجازر كانت تغذيها و تزيد من حدتها دعوات التحريض الطائفي ، تم تشكيل لجنة تحقيق رسمية حكومية و بانتظار نتائجها . اليوم لنا الحق ان نتساءل هل نجح النظام الديكتاتوري بتشويه صورة السوري و النيل عميقاً من هرمه القيمي؟ مؤلم طرح هذا السؤال في ضوء المجازر التي نالت من السوريين على اختلاف أطيافهم منذ ١٤ عاماً . مؤلم مع وقوع ضحايا من المدنيين . مؤلم مع موجات التجييش الطائفي و التحريض الديني . اليوم وأكثر مما مضى الضرورة الآنية و العاجلة تقتضي صدور قانون يمنع التحريض الطائفي ، يعاقب عليه كل من شارك به ، ارتكبه ، أو قدم المساعدة له .
في الثالث عشر من آذار / مارس للعام ٢٠٢٥ تم التوقيع على الإعلان الدستوري و صدوره ، ليست المساحة متاحة هنا لتحليل سياسي أو تشريعي لحيثيات صدوره ، لكن ان كان لنا ان ندعو إلى ضرورة تقنين مواد تمنع العنف ، جرائم الكراهية ، تجريم التجييش الطائفي و التحريض على العنف الديني اليوم وليس غداً، فان الإعلان الدستوري سيفي بالغرض حيث أوجد الأساس التشريعي لهذا و ذاك في عددٍ من المواد يأتي في مقدمتها المادة السابعة التي تؤكد على التزام الدولة بتحقيق التعايش و الاستقرار المجتمعي و تحفظ السلم إلى منع إثارة النعرات و التحريض على العنف وتكفل التنوع الثقافي في المجتمع السوري. كذلك الحال التشريعي في المادة ١٠ التي هي من الأهمية من حيث تأكيدها على مساواة المواطنين في الحقوق والواجبات أمام القانون. ثم تتبعها المادة ١١ لتنصّ على مسؤولية الدولة في صون حقوق الإنسان و حرياته الأساسية بما تقتضيه المعاهدات والاتفاقيات الدولية ،و على الرغم من ورود جملة في المادة آنفة الذكر والتي حصرت من حيث الصياغة الاتفاقيات و المعاهدات التي صادقت عليها الجمهورية العربية السورية، ما جعلها أي المادة مقتصرة على ما تمّ توقيعه سابقاً و لا تشمل جميع الاتفاقيات و المعاهدات ، علماً أن العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي نصّ عليها المشرع الدولي هي من الأهمية بمكان من حيث حرصها على كرامة الإنسان و حرياته ، و التي لم يقم النظام الديكتاتوري بالتوقيع عليها ، بينما الآن هناك فرصة تاريخيّة لسوريا للانضمام إلى المجتمع الدولي و نظامه التشريعي عبر التوقيع على كل الاتفاقيات و المعاهدات الدولية بأجيالها الثلاثة. على آية حال و كي لا نذهب بالشرح بعيداً فان محور النقاش هنا هو أن الإعلان الدستوري بمواده الثلاثة آنفة الذكر (٧،١٠، ١١) تحديداً قد وفر الأساس القانوني لإصدار قانون يمنع التجييش و التحريض الطائفي. اعتباره فعلاً جرمياً يعاقب عليه القانون بأقصى العقوبات و يمتد الجزاء من الفاعل إلى كل من، المحرض، المساعد، و كل من اشترك بجزء من الفعل سواء وقع الفعل بشكل مادي أم معنوي و عبر الوسائل عامة لا سيما وسائل التواصل الاجتماعي . ما يحتاجه المجتمع السوري الآن في المدى القريب معاقبة جريمة الكراهية التي تقوم على أساس عرقي، دين، جندر، أو طائفة. توفير كل الآليات الممكنة لمراقبته و تنفيذه. . الملف السوري له تعقيداته و مستوياته المتعددة من حيث النزاع و الوصول إلى السلام الأهلي الذي يستحقه ، لكن ما بات ملحاً أكثر من ذي قبل ان نبدأ بدور و سيادة القانون عبر تحديد ما يحتاجه استقرار المجتمع من مواد قانونية تدعم قيمه الإنسانية و تنبذ كل ما قام نظام الأسد بفرضه من اقتسام و شرذمة لمجتمع كل ذنبه كان ابتلائه بدكتاتورية و عنف مفرط و الذي فاق قدرات تحمل الفرد و المجتمع بآنٍ معاً، أما الآن و قد انتهت مرحلة التسلط المخابراتي ، انتهى عهد الطاغية. فان أضعف الإيمان أن نسترد تعافينا الإنساني و نظامنا القيمي، نعود إلى ان تنوعنا و احتضاننا لهذا التنوع هو مصدر فخر السوري كإنسان أولاً قبل أي اعتبار آخر ، فخر هويته . أن يكون القانون حامياً و بمساواة مطلقة كل الأعراق و الأديان و الطوائف و الاثنيات ، ان يمنع جرائم الكراهية و العنف ، يبني ثقة لا محدودة بين الأفراد و القانون ، دوره و سيادته و حكمه. انتهى عهد الطاغية .
أسبوع سعيد لكم جميعاً.