بقلم: د. حسين عبد البصير
طواحين المومياوات
إذا كانت المومياوات المصرية نجت من السرقة في العصور القديمة، ومن الغزوات الأجنبية التي تعرضت لها مصر عبر تاريخها الطويل، فإنها لم تنج من ذلك الجشع الغربي عمومًا والأوروبي بخاصة لنهب الآثار المصرية، فاستشرت في مصر من قبل الأوروبيين عادة نبش مقابر الفراعنة وانتزاع المومياوات من أجداثها، والتي كان يُصنع منها مسحوق له فاعلية فائقة في تجديد حيوية كل شيء، حتى إن الإنجليز أنفسهم قاموا في بلادهم بتشييد «طواحين المومياوات» تلبية للطلب المتزايد على هذا المسحوق!!!
وكانت المومياوات أول ما يجذب انتباه الأجانب ويلفت نظرهم لزيارة مصر وتجيء أولى الإشارات إلى المومياوات عند أبي التاريخ أو أبي الأباطيل المؤرخ الإغريقي هيرودوت في بداية القرن الخامس قبل الميلاد، وتبعه المؤرخ ديودور الصقلي في القرن الأول قبل الميلاد. ووصف هؤلاء المؤرخون الكلاسيكيون في كتاباتهم طريقة تحنيط المومياوات عند زيارتهم مصر، والتي كانت ما تزال تُمارس حتى وقت زيارتهم، ليس من باب الفضول المعرفي وإنما كأحد المظاهر الحضارية العظيمة الأهمية لهذه الحضارة العريقة.
وفي وقت متأخر نوعًا ما، بدأت المومياوات تكتسب الأهمية عند الغرب الذي كان بعيدًا عن الغرض الأساسي لتلك المومياوات والخاص بدفن أجساد الموتى، والذي من أجله قام المصريون القدماء بتحنيطها. وانصب اهتمام الغرب على المومياوات ليس لأهميتها الأثرية والمعرفية ومعرفة كيف توصل المصريون إلى فنية التحنيط الفائقة تلك، بل نظرًا لادعائه بخواص المومياوات الطبية المتميزة.
ويبدو أنه حدث لبسٌ بين الراتينجات السوداء المستخدمة في عملية التحنيط وبين مادة القار، والتي تحتفظ في رأي الغربيين بقوى علاجية، دفعت الأوروبيين إلى المجيء إلى مصر، لجلب المومياوات التي أصبحت السلعة التجارية الأولى في أوروبا، وتصدرت واجهات أشهر محال الصيدلية الأوروبية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين.
ويذكر المؤرخ العربي الشهير عبد اللطيف البغدادي القرن الثاني عشر الميلادي كيف أن مادة القار تتدفق من قمة جبل المومياء في فارس إيران وعند خلط هذه المادة بالماء فإنها تعطي رائحة تعتبر مفيدة عند استنشاقها، وتكون أكثر إفادة لأمراض مؤكدة، عندما تؤكل. واستمر هذا الاعتقاد سائدًا على نطاق واسع خلال القرن التاسع عشر. ومما يذكر في هذا الصدد أن ملك فارس أرسل إلى ملكة إنجلترا الملكة فيكتوريا كميات صغيرة جدًا من كنز القار المدّخر في جبل المومياء في فارس.
وفي بدايات العصور الوسطى أصبح استخدام المومياوات كدواء شيئًا مؤكدًا وشديد الانتشار، ويرجع السبب في ذلك إلى الفيزيقي العربي اليهودي «المجر» القرن الثاني عشر الميلادي في الإسكندرية. وعلى الفور تلقف الغرب هذا الاكتشاف وأقره على وجه السرعة، وبدأت كلمتا «MUMIE» و»MUMIA» تظهران بكثرة في النصوص اللاتينية.
وكان استخدام مسحوق المومياوات انتشر من قبل في العلاجات الطبية القديمة في الشرق والغرب على السواء. فهذا عالم الفيزياء والأدوية الإغريقي ذائع الصيت ديو سقوريدس 40 – 90م يوصي باستخدام مسحوق المومياوات كعلاج لعدد غير قليل من الأمراض.
ويأتي من بعده الفيزيقي والعالم الفارسي المعروف «أفيسنا» 980 – 1037م ليوصي باستخدام ذلك المسحوق أيضًا لعلاج أكثر من مرض، مثل الخراريج، والطفوح الجلدية، وكسور العظام والارتجاجات الدماغية والشلل، وأمراض الدم، والصرع والدوار، وانبثاق الدم من الرئتين والحناجر والسعال والغثيان والقرح والسموم واضطرابات الكبد والطحال، وكان يؤخذ هذا المسحوق مخلوطًا بالأعشاب غالبًا مثل العترة والزعتر والبلسان وغيرها. وبالإضافة إلى استخدام هذا المسحوق في الشفاء من الامراض فإن البعض أوصى أيضًا باستخدامه كطعم لصيد الأسماك!
وفي العام 1694م، يوصي بيير بومي بأن يختار المرء المومياء المرادة بعناية، فيجب أن تكون سوداء، من دون عظام أو رماد، وذات رائحة زكية، ومن بعض شيء محروق وليس من القار أو الراتنج.
وكتب العديد من الكتّاب في اعمالهم الطبية والصيدلية عن أهمية المومياوات مثل فرنسيس بيكون 1561 – 1626م الذي أكد أهمية الخواص الطبية لمسحوق المومياوات إذ يقول: «إن لمسحوق المومياوات قوة عظيمة في وقف نزيف الدم».
وأصبحت المومياوات المسحوقة، من المخدرات المهمة في أوروبا، ففي العام 1549م، يقوم أندريه تافي، قس قصر كاترين دي ميدس، بسرقات عدة في سقارة بحثًا عن المومياوات المطلوبة لعلاج سيدته. حتى أن فرنسيس الأول حاكم فرنسا لم يكن يذهب إلى أي مكان من دون لفافة مسحوق المومياوات المخلوط بالراوند المسحوق في جيبه، حتى يستخدمها في حال سقوطه أو تعرضه لأي ايذاء جسدي.
وفي العام 1564م، يذهب الفيزيقي جي دي لافونتين إلى الإسكندرية لشراء أكبر عدد من المومياوات لحاجته الملحة إليها في العلاج. وفي هذا الوقت بالذات كانت الإسكندرية المركز الرئيسي لكل تجارة تجريها أوروبا مع مصر، وتأتي تجارة المومياوات ومساحيقها في قمة الصدارة من دون شك. وكان يهود الإسكندرية هم الذين يقومون على أمر هذه التجارة من دون غيرهم، فاحتكروا أسرارها وكانت لهم المصادر الممولة متمثلة في رجال يحفرون كل شبر في مصر بحثًا عن المومياوات.
وبدخول أوروبا العصور الوسطى وعصر النهضة، أصبحت المومياوات أكثر شعبية، وكثيرًا ما أشير إليها في الأعمال الأدبية لهذه الفترة مثل مسرحتي «روميو وجوليت» و»عطيل» لوليم شكسبير.
وفي الواقع، فإن الجانب الآخر من المحيط، وأعنى الولايات المتحدة، لم ينج هو الآخر من سطوة المومياوات المصرية الساحرة. فبعض القصص السحرية في نيويورك وفيلادلفيا ما يزال يزود بـ «رماد المومياوات» كأحد العناصر المهمة في التعاويذ. بل إن فيلم «سنو وايت والأقزام السبعة» الذي أنتجته أفلام والت ديزني للرسوم المتحركة لم يخل هو الآخر من ذلك التأثر بالمومياوات المصرية.
وبداية من القرن السادس عشر الميلادي فصاعدًا يأتي الأجانب لزيارة مصر لرؤية المومياوات في أرضها الطبيعية خصوصا منطقة سقارة الأثرية بالمومياوات؛ اذ كان يوجد في سقارة العديد من الأهرام والمقابر ذات الحجرات المتعددة الواسعة والممرات الكبيرة الممتدة والتي كانت مملوءة بآلاف المومياوات.
وكانت مصر في نظر هؤلاء الأجانب كنز المومياوات الهائل الذي لا ينضب أبدًا وفي بداية القرن التاسع عشر الميلادي، ينجح لاعب السيرك المغامر الإيطالي جيوفاني بلزوني 1778 – 1823م في العثور على العديد من المومياوات الآدمية والحيوانية لعدد من الثيران والأبقار والقطط والتماسيح والطيور، في المقابر التي نبشها.
وشحنت الحملة الفرنسية على مصر والشرق بقيادة نابليون بونابرت 1798 – 1801م أعدادًا كبيرة من المومياوات الكاملة إلى متحف «اللوفر» في باريس وكان من المقرر دفن هذه المومياوات – لا عرضها متحفيًا – في حدائق قصر قريب من طريق برولت، لكنها دُفنت أخيرًا أسفل سجن الباستيل مع أبطال وشهداء 1830م.
والشيء المدهش إن نابليون بونابرت نفسه وزوجته جوزفين أخذا رأسي مومياويين فُضلا عن جسديهما وكانا لرجل وامرأة.
وفي العام 1833م، كتب الأب جرامب إلى محمد علي باشا والي مصر مستنكرًا ما يحدث للمومياوات المصرية من نهب متواصل على أيدي الأوروبيين في ظل وإهمال وتراخ من السلطات المصرية غير الحريصة على الحفاظ على تراثها العريق» وختم رسالته قائلاً: «يا سيدي.. إن العائد من مصر إلى أوروبا، لابد أن يعود حاملاً في يمناه مومياء وفي الأخرى تمساحًا !!». ولم يكتف الأوروبيون بهذا فقط، بل قاموا بنزع أجزاء من المومياوات كالأيدي أو الأقدام أو الأذرع أو الرؤوس أو حمل المومياء كاملة عند يأسهم وذلك لتزيين مكتباتهم وصالوناتهم الخاصة ولتبقى كذكرى على زيارة قاموا بها إلى مصر ذات مرة.
ويتعجب أبو علم المصريات الحديث السير وليم فلندرز بتري في كتابه «الأثاث الجنائزي» من أن أحد السائحين الإنجليز اشترى مومياء من أسوان على أنها لمهندس إنجليزي مات في مصر، وليس على أنها لمصري قديم على الإطلاق.
وأصبح البحث عن المومياوات ومطاردتها في كل مكان أهم أهداف زيارات الطبقة الارستقراطية في أوروبا لمصر.
وأثناء الرحلة التي قام بها الأمير إدوارد أمير ويلز الملك إدوارد السابع فيما بعد العام 1886م لمصر، ادعى إنه أعظم مكتشف للمومياوات؛ إذ اكتشف وحده حوالي ثلاثين مومياء من الأسرتين 25 و26 في مقبرة في غرب مدينة الأقصر. وحُملت الأجساد والأكفان إلى إنجلترا وقُسمت في عدد من المجموعات الخاصة. وكانت هذه المومياوات قد جمعت في بئر بعمق ثلاثين مترًا في المقبرة 2005 في دير المدينة في الأقصر وذلك للحفاظ عليها ووُجد بها التابوت الخاص بالزوجة الإلهية للأسرة السادسة والعشرين «نيتوكريس» وقد عُثر على هذه البئر بالفعل.
ولم تسلم المومياوات من عبث الرحالة المكتشفين عند زيارتهم لمصر فقام بالبحث عن المومياوات رحالة مشهورون أمثال توماس كوك وغيره، بعد أن طالتهم حمى المومياوات أيضًا.
وبمجرد أن تصل المومياوات إلى أوروبا، فإنها تلهب مشاعر الناس وتثير أخيلتهم. ماذا يكون داخل هذه المومياوات القادمة من مصر وماذا تحوي من أسرار. وانتشرت عادة فتح وكشف المومياوات في الأماكن العامة وفي تجمعات كبيرة حتى أصبحت من الأحداث الاجتماعية اليومية، وجزءاً لا يتجزأ من برنامج بهو الاستقبال الرئيسي في قصر الملكة فيكتوريا، لجلب المتعة والتسلية وتسرية أعين النظارة مع توجيه أكبر قدر من الدعوات للطبقة المالكة وطبقة النبلاء والنبيلات ورجال البلاط وسادة المجتمع وكبار رجال الدولة والجيش.
وفي 6 إبريل 1833م أقام المغامر توماس بتجرو صديق المغامر بلزوني احتفالاً عامًا بتذاكر في مسرح مستشفى «تشارنغ كروس» ودعا بتجرو الآثاريين والمكتشفين وعلماء المصريات وأعضاء البرلمان والفنانين والمؤلفين والكتاب والأمراء ورجال الدولة والديبلوماسيين وعلماء الفيزياء وضباط الجيش لحضور هذا الاحتفال الكبير.
ولم يكفِ هؤلاء المغامرون بما ألحقوه بالمومياوات من اعتداء وتدمير وتشويه، بل قاموا باشتقاق زيت خاص بني اللون عرف بـ»البني الموميائي» من بقايا المومياوات، اُستخدم في زيت الرسم، واستخدمه الرسامون في رسم لوحاتهم والتوقيع به عليها.
وزادوا على ذلك، أن قام أحدهم ويدعى أغسطس ستانوود صانع الورق الأميركي، باستخدام لفائف المومياوات الكتانية في صناعة الأوراق البنية اللون. ومن بعده، راجت تجارة لفائف المومياوات في صناعة الأوراق.
ولم تسلم المومياوات الحيوانية من المصير نفسه الذي لاقته المومياوات الآدمية فاستخدمت مومياوات القطط – مثلاً وكانت تهرب من مصر إلى أوروبا على ظهر السفن، كثقالات لحفظ توازن السفن، وفي تخصيب الأرض الزراعية التي تستصلحها الدول الأوروبية. وحرقت المومياوات عوضًا عن الأخشاب غير الموجودة. ويقول الكاتب الأميركي الساخر العظيم مارك توين إن المومياوات كانت تُستخدم كوقود لتسيير القطارات.
والشيء المثير للانتباه هو أن موظفي المتاحف الأميركية الكبرى مثل متحف المتروبوليتان ومتحف بروكلين كانوا إلى وقت قريب قبل 1950م يرفضون دخول المومياوات إلى متاحفهم، بحجة أنها جثة لا تحمل تصريح دفن أو شهادة وفاة. فعلى سبيل المثال رفض أحد موظفي متحف بروكلين إدراج إحدى المومياوات المصرية ضمن مقتنياته المتحفية. ودخلت المومياء المتحف بعد عذاب وفترة وطويلة من الانتظار وحملت اسم «ملفين» ورغم ذلك فما تزال «ملفين». تبحث عن شهادة وفاتها.
وتتبدل الأحوال عند اكتشاف مقبرة الفرعون الصغير «توت عنخ آمون» في العام 1922م؛ إذ يلقى الممول الإنجليزي المعروف اللورد كارنارفون حتفه ملدوغًا ببعوضة معدية فمنذ تلك اللحظة أصاب الذعر والهلع الأوروبيين والأمريكيين وخشوا لعنة الفراعنة، وأحجموا عن اقتناء الآثار المصرية.
حتى إن أحد السائحين الإنجليز كان انتزع قطعة حجرية صغيرة من هرم الجيزة الأكبر على سبيل الذكرى وما أن وصل إلى إنجلترا حتى توالت عليه النكبات فعرف السبب وعلى الفور قام برد القطعة الحجرية الصغيرة إلى السلطات المصرية مشفوعة بخطاب اعتذار عما فعل طالبًا الصفح والغفران من الفراعنة العظام، ولولا هذا الرعب الذي سبّبته لعنة الفراعنة لدى الغرب لاستمر مسلسل نهب الآثار المصرية طويلاً.
وهكذا كم عانت المومياوات المصرية على أيدي هؤلاء الأوروبيين المغامرين الذين قاموا منذ وقت مبكر بسحقها واستخدام مسحوقها في العلاجات الطبية، وكطعم لصيد الأسماك وللحرق بدلاً من الأخشاب وكوقود للقطارات وكثقالات للسفن وزينة للصالونات والمكتبات الخاصة، ولتخصيب الأرض الزراعية، واللهو والعبث بها في حفلاتهم الاجتماعية العامة وعرضها مقابل تذاكر للتربح من ورائها.
ولم يكن هدف المصريين القدماء عند تحنيط أجسادهم أن يعبث بها هؤلاء المغامرون الأوروبيون وإنما كان هدفهم من وراء تحنيطها هو أن تتعرف الروح إلى الجسد لتعود إليه ثانية في دورة حياتية أبدية لا تنتهي. وقد أعاق هؤلاء المغامرون دورة تلك الحياة من الاستمرار والازدهار كما رأينا – بأفعالهم غير المسؤولة تلك.