بقلم: د. حسين عبد البصير
لماذا لم يظهر سيدنا موسى في الآثار المصرية؟
إنه من الأشياء المثيرة للدهشة واللافتة للانتباه عدم تصوير سيدنا موسى على الآثار المصرية القديمة. ومن المعروف أن التاريخ يكتبه عادة المنتصر، وهذا ربما يكون السبب في عدم تصوير سيدنا موسى على الآثار المصرية القديمة؛ وذلك لأن الملك الذي عاصر سيدنا وخلفاؤه لن يرضوا بتصوير هزيمة هذا الملك على الآثار المصرية، ولن يعطوا النصر أو السبق لفريق كان سلفه يناصبه العداء. وكان من عادة الملوك الفراعنة تصوير أنفسهم على آثارهم منتصرين وفقًا لمفهوم الملكية ودور الملك في مصر الفرعونية. وقد مال بعض الملوك الفراعنة لتصوير أنفسهم في موقع المنتصر بدلاً من موقع المنهزم. وقام بذلك الملك رمسيس الثاني حينما صور نفسه منتصرًا على العديد من آثاره بعد خوضه معركة قادش ضد الحثيين والتي تمت هزيمته فيها في البداية.
لقد كان اليهود في مصر في ذلك الوقت قلة غير ذات عدد كبير. فلا نجد لهم آثارًا في مصر القديمة إلا كذكر بسيط على لوحة الملك مرنبتاح، ابن الملك رمسيس الثاني، والذي سجل عليها الانتصار على العديد من الشعوب الأجنبية، وذكر ضمن ما ذكر إبادته لبذرة إسرائيل. وتم ذكر كلمة إسرائيل هناك كقبيلة، وليس لمكان له جغرافية محددة، مما يدل على أنهم كانوا رحلاً ولم يكن لهم مكان محدد يأوي هذه القبيلة. وهناك فترات تم النظر إليها بالإهمال أو التجاهل، مثل فترة حكم الملك أخناتون الذي تجاهلت بعض المصادر المصرية القديمة وذكرته باسم المارق من العمارنة أو الملك المهرطق أو حذفت اسمه كلية من القوائم الملكية. وربما تم إغفال ذكر سيدنا موسى في المصادر المصرية لهذا السبب وهو عدم الاعتراف بوجوده أو لتجاهل هذا الحدث كله تمامًا. وهناك وجود لاسم «مِسي» أو «موسى» في أسماء العديد من الشخصيات المصرية القديمة. ومن الجدير بالذكر أن اسم سيدنا موسى هو اسم مصري، وهو «مِسي»، وهو اسم مفعول بمعنى «المولود». وهناك أسماء مصرية عديدة دخل ضمن تركيب اسم «مِسي» مثل «رع مِسي» أو «رعموزا» بمعنى «مولود رع»، الوزير وحاكم طيبة (الأقصر الحالية)، وصاحب المقبرة الشهيرة في البر الغربي لمدينة الأقصر من عهد أمنحتب الثالث وأمنحتب الرابع/أخناتون.
ولا يعرف أحد ما سوف تحمله الاكتشافات المصرية في الغد لنا من حقائق قد تغير الكثير من معلوماتنا عن مصر الفرعونية وحضارتها الخالدة.
فرعون موسى في أرض الإله!
أثارت رواية الكاتب الشاب أحمد مراد «أرض الإله» زوبعة كبيرة حول ماهية فرعون الذي زامن سيدنا موسى عليه السلام. وقد قامت الرواية على هذه الفرضية المثيرة للجدل. وللرد على مزاعم تلك الفرضية غير العلمية والتي تخلط عدداً من الأمور بشكل غير علمي أو منطقي أو منهجي على الإطلاق، والتي لا تقوم على أي أساس علمي ولا يدعمها أي دليل أو مصدر أثري أو أي مرجع علمي إلا الربط غير الموفق بين عناصر عدة غير متآلفة من التاريخ المصري القديم والقرآن الكريم وكتابات علماء المسلمين القدامى والعهد القديم من الكتاب المقدس دون أي أسانيد علمية مطلقاً. وبُنيت تلك الفرضية اللاعلمية على تأويلات لغوية بحتة بناء على اللفظ الأعجمي الممنوع من الصرف في اللغة العربية «فرعون». وفيما يلي أحاول أن أرد على تلك الفرضية غير العلمية:
وفي البداية، أود أن أقول إن لدى عدد كبير من المصريين وغيرهم اعتقاد غير صحيح بأن «الفرعنة» والتجبر والاستبداد والديكتاتورية والطغيان صفات حكام مصر منذ عصر الفراعنة، ويطلقون عليهم جميعا لقب «فرعون» وجمعهم «فراعنة» دون أدنى استثناء. وكذلك يطلق المصريون أنفسهم وغيرهم على الشعب المصري كله لفظ «فراعنة». وجاء هذا الاعتقاد نتيجة ما ورد في الكتاب المقدس (العهد القديم) والقرآن الكريم عن طغيان وتجبر وتكبر وتأله الملك المصري القديم الذي أطلق عليه لقب «فرعون» دون أن يُسمى، وعاش في عهده نبي الله موسى عليه السلام.
وقد كان الحاكم في مصر القديمة منذ بداية توحيد مصر – حوالي عام 3000 قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام أي منذ حوالي 5000 سنة- رأس الدولة والسلطة المركزية متمثلة في جميع السلطات التشريعية والحربية والتنفيذية، فضلاً عن رئاسته للسلطة الدينية والكهنة. وكان الملك المصري يحكم مصر نيابة عن آلهة مصر الكبار باعتباره ابن الآلهة والوريث الشرعي لهم على الأرض. وهكذا كان الحاكم المصري مصدر السلطات مجتمعة.
وجاء لفظ «فرعون» من القصر الذي كان يعيش فيه الحاكم المصري القديم. وكان يطلق عليه «بر عا» أو «بر عو». وهو تعبير مصري قديم مشتق من مقطعين وهما «بر»، وهو اسم يعني «البيت»، وصفة هي «عا»، وتعني «الكبير» أو «العظيم» نسبة إلى الحاكم. وكان يُستخدم هذا المسمى حين الإشارة إلى الحاكم ومقر حكم الدولة المصرية القديمة منذ عصر الدولة الحديثة (أي منذ حوالي 3500 سنة). ثم تحول لقب «برعو» إلى «فرعو» في اللغة العبرية، واُضيفت «النون» في اللغة العربية فتحول إلى «فرعون». وكان يُستخدم لفظ «فرعون» استخداماً إدارياً فقط، ضمن صفات الحاكم المصري العديدة. ونظراً لظهور هذا الوصف الملكي المصري الجديد منذ عصر الدولة الحديثة؛ لذا لم يستخدمه القرآن الكريم عندما أشار إلى حاكم مصر في عهد سيدنا يوسف عليه السلام، وأطلق عليه لفظ «الملك». وهذا أقرب إلى أدبيات العصر الحالي عندما تٌطلق لفظة «البيت الأبيض» عند الإشارة إلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أو سياساته.
ومع التسليم بما جاء في الكتب السماوية عن فرعون موسى عليه السلام؛ فإنه لا يجوز اتهام كل حكام مصر الفراعنة بنفس صفات الطغيان والتأله والتجبر التي كان عليها ذلك الفرعون؛ فكان من بينهم الصالح والطالح والمؤمن والكافر والقوي والضعيف والعادل والظالم. ولا يمكن بأي حال من الأحوال إطلاق لقب «فراعنة» – الذي كان يُطلق على الملوك الفراعنة منذ عصر الدولة الحديثة فقط- على كل المصريين؛ لأنه من غير المنطقي أن يُطلق لقب «قيصر» – الذي كان يخص الإمبراطور الروماني- على كل الرومان أو الروم.
وهكذا فإن لقب «فرعون» لم يكن يدل على تجبر كل الحكام المصريين، وكذلك لم يكن يدل على شعب معين أو جنس محدد؛ وإنما هو وصف إداري بحت يشير إلى الحكام المصريين منذ عصر الدولة الحديثة وإلى نهاية تاريخ مصر الفرعونية فقط في عام 332 قبل الميلاد عندما احتل الإسكندر الأكبر مصر، وتحولت مصر إلى مستعمرة يحكمها الغرباء لقرون عديدة.
ولم يكن الهكسوس من العرب كما تزعم تلك الفرضية. واحتل الهكسوس شمال مصر إلى مصر الوسطى في الفترة من 1750 قبل الميلاد إلى 1530 قبل الميلاد فيما يعرف تاريخياً بـ«عصر الانتقال الثاني». ولم يكن بين ملوكهم ملك يُسمى فرعون. ولم يعش سيدنا موسى عليه السلام بينهم ولا في زمنهم. وأسماء الملوك الخمسة لا يوجد من بينها «نب تاوي» وإنما «نبتي» أي المنتسب للسيدتين الربتين «نخبت» و«وادجيت». ولا يجوز الربط بين تفسيرات العلماء المسلمين القدامى لأسماء بعض الشخصيات، التي جاء ذكرها في القرآن الكريم دون أسمائها، وبين الأسماء المصرية القديمة. ومن المعروف أن اللغة المصرية لم تفك أسرارها إلا في عام 1822 على يد العلامة الفرنسي جان- فرانسوا شامبليون. فكيف للعلماء المسلمين القدامى معرفة الأسماء المصرية القديمة على نحو صحيح في زمنهم البعيد من العصر الحديث؟ وأين مصادر هذا الزعم؟ وأين قال علماء المصريات هذه الفرضية؟ واللغة الآرامية ليست لغة الأعراب، ومن المعروفة أنها كانت لغة الشرق الأدنى القديم في الألف الأول قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وأن اللغتين العربية والعبرية من اللغات السامية الغربية.
وفي النهاية، أقول إن على أي كاتب يستخدم التاريخ المصري القديم مسرحاً لأحداث روايته حتى، وإن كانت خيالية، أن يتبع الحقيقة العلمية التي لا خلاف عليها عن العصر الذي يكتب عنه حين التصدي لأية فترة تاريخية، ولا يجوز إطلاق الأحكام والآراء دون وجود ما يدعم أي فرضية من دلائل أثرية، وأن الربط بين الديني والتاريخي والأثري عادة لا يكون في صالح الديني الثابت في مواجهة التاريخي والأثري المتغير وفقاً لأحدث الاكتشافات الأثرية التي في تزايد مستمر وتغير بشكل دائم، ويجب أن يصدق الكاتب مع نفسه أولاً ومع قرائه ثانياً.
الألوهية في مصر الفرعونية
هل كان المصريون القدماء موحدين يؤمنون بإله واحد أم بآلهة متعددة؟ لماذا كان لدى المصريين القدماء آلهة عديدة ذات أشكال آدمية أو آدمية وحيوانية أو حيوانية أو على شكل طيور وحشرات؟ وما مظاهر وطبيعة الآلهة في مصر القديمة؟ وهل كان لدى الفراعنة آلهة كونية وآلهة دولة وآلهة محلية وآلهة موتى وآلهة عالم آخر وآلهة تمثل الملكية وآلهة مرتبطة بعاصمة الحكم؟ وهل كان لدى الفراعنة مجامع للآلهة؟ وهل كان الفرعون في مصر القديم ملكًا أم إلهًا؟ وهل كانت هناك آلهة أجنبية في مصر القديمة؟
يحاول هذا المقال الإجابة عن كل هذه الأسئلة وغيرها الكثير. والآن دعونا ندخل إلى عالم الديانة المصرية القديمة الرحيب محاولين الإجابة عن فكرة وطبيعة ومفهوم الألوهية وتقديس الملوك الفراعنة في حياتهم والبشر المبجلين بعد وفاتهم. فإلى هذا عالم الديانة الفرعونية الغامض والمثير.
لقد اتسم الفكر المصري القديم بالتأمل والتتبع ومحاولة فهم كل ما هو موجود في البيئة المحيطة وتفسير الظواهر الطبيعية والكونية. غير أنه كان هناك الكثير من الأمور والظواهر يصعب على المصري القديم إدراكها، مما دفعه إلى الإيمان بوجود قوة علوية غيبية لها القدرة العظمى التي تفوق قدرته المحدودة وتتحكم في مسار حياته وفي حدوث العديد من الظواهر المختلفة حوله. وكان لظواهر عدة، مثل قدوم الفيضان وانحسار النهر، والبرق والرعد وهطول الأمطار، وخروج النباتات من باطن الأرض ونموها وإثمارها، أكبر الأثر في يقين المصري القديم التام بوجود هذه القوة المؤثرة في حياته والمدبرة للبيئة والكون الفسيح حوله.
إله واحد أم آلهة عديدة؟
تعد طبيعة الإله في مصر القديمة من أكثر الأمور التي كانت وما تزال مثيرة للدهشة في الديانة المصرية القديمة. فهل كان المصري القديم يؤمن بإله واحد أم بآلهة عدة؟ لقد آمن المصري القديم بعدد كبير من المعبودات المتنوعة التي أسبغ عليها القداسة منذ أقدم العصور التي مرّت بها الحضارة المصرية القديمة. واختلفت طبيعة كل معبود عن الآخر. وربط المصري القديم كل معبود بظاهرة ما من الظواهر. واختلف اسم كل معبود عن الآخر. وكانت لكل منطقة جغرافية في مصر القديمة معبودها الخاص بها. وكان من بين الآلهة ما له طبيعة محلية تخص نطاقًا محدودًا من مصر، وكانت هناك آلهة أخرى متسيدة في أرجاء من البلاد.
وكان لإيمان المصري القديم بحياة أخرى بعد الموت وبفكرة الثواب والعقاب والذهاب إلى حقول «الإيارو» أو جنات النعيم أو دخول بوابات الحجيم والإيمان بالسحر أكبر الأثر في ظهور ذلك التنوع والتعدد في المعبودات في مصر القديمة. ومن هذا المنطلق يمكن تقسيم الآلهة المصرية القديمة إلى آلهة كونية وآلهة رسمية للدولة المصرية وآلهة محلية وآلهة خاصة بالموتى والدفن والجبانة، وآلهة خاصة بالعالم الآخر، وآلهة شعبية، وآلهة منزلية تحمي المرأة والأطفال وترعى شؤون المنزل المصري القديم. وكان لكل إله أكثر من طبيعة وأكثر من دور. وكان بعض الآلهة يشترك في نفس الصفات مع البعض الآخر. وحدث تداخل ودمج بين بعض الآلهة وبعضها البعض. وكان بعض الآلهة يتربط بالملكية المصرية المقدسة أو بعاصمة حكم الدولة المصرية. وتنوعت كذلك مظاهر وهيئات الآلهة التي تم تصوير الآلهة المصرية فيها، فمرة نراها ذات هيئات بشرية خالصة، ومرة نراها في هيئات حيوانية بحتة، ومرة ثالثة نراها في هيئات تجمع بين الأشكال الآدمية والهيئات الحيوانية، ومرة رابعة نراها في هيئات الطيور والحشرات. وتنوعت أيضًا رموز وتيجان وأزياء المعبودات والمفردات الدالة على الرموز المقدسة للآلهة. وكانت هناك آلهة فردية ذاتية الوجود والتكوين والاستمرارية، وكانت هناك آلهة زوجية أي تتكون من إلهين، وكانت هناك آلهة ثلاثية أو الثواليث أي تتكون من ثلاثة آلهة مثل الأب أوزيريس والأم إيزيس والابن حورس، وكان هناك الرابوع أي مجموعة من الآلهة مكونة من أربعة آلهة، وكان هناك الثامون أي مجموعة آلهة عددها ثمانية مثل ثامون الأشمونين في المنيا في مصر الوسطى، وكان هناك التاسوع وهو مجموعة من الآلهة عددها تسعة آلهة مثل تاسوع عين شمس. وكان هناك عدد كبير من الربات الحاميات مثل إيزيس ونفتيس ونيت وغيرها. وباعتبار مصر بوتقة الحضارات، توافد على أرض مصر المبارك عدد كبير من الآلهة الأجنبية خصوصًا الآلهة السامية مثل بعل وحورون، الذي جاء منه اسم «أبوالهول»، وعشترت (عشتار)، ودخل إلى مصر القديمة عدد كبير من الآلهة اليونانية والليبية والنوبية والجنوبية.
وعلى سبيل المثال، كان الإله حورس إلهًا كونيًا سماويًا وتم تصويره في هيئة الصقر المحلق في سماء مصر، وكان كذلك ابنًا لرب الأرباب وسيد محكمة الموتى والعالم الآخر الإله الأشهر أوزيريس، وكان حورس وريثًا لأبيه على العرش وممثلاً للملكية المصرية وإلهًا رسميًا للدولة المصرية، وكان كذلك معبودًا محليًا في بعض مقاطعات وأقاليم ومدن مصر. لكن تبقى الظاهرة الأهم والأشمل أنه كان هناك إله واحد أوحد قوي الإرادة وعظيم القوة ومنزه الذات وعلوي الصفات صوَّره المصري القديم مسيطرًا على أرجاء مصر القديمة قاطبة، وكان هو إله مصر القديمة الأقدم، غير أنه كان متعدد الصور والأسماء والهيئات عبر عصور مصر القديمة المختلفة.