بقلم : نعمة الله رياض
لا يعرف لماذا أطلق عليه والداه إسم نبيه !! فالكل كان ينعته بالغباء
بدءاً من أبيه وأمه أنفسهم ، مروراً بمعلمة مادة الحساب في المدرسة الإبتدائية، وإنتهاءاً بمدرس الميكانيكا في مدرسة الصنايع التي تخرج منها ، ليضيف عاطلاً آخر إلي عدد العاطلين في قريته .. لكنه تحت ضغط والديه ، ولتخفيف مطالب الحياة عن كاهلهما ، ظل يبحث عن أي عمل داخل القرية أو خارجها ، حتي إهتدي أخيراً لمحل إصلاح وبيع إطارات السيارات خارج القرية علي الطريق الزراعي ..
تعلم بسرعة كيف يفك الصواميل التي تثبت عجلة السيارة قليلاً، ثم يرفع شاسيه السيارة بالكوريك ثم يكمل فك الصواميل ليحرر العجلة ويدحرجها إلي جانب حوض مملوء بالمياه وبعد أن يرفع ضغط الهواء في الإطار بمكبس الهواء ، يغمر الإطار في الماء ليكتشف بواسطة فقاعات الهواء الخارجة من الإطار مكان الثقب ، ثم يضع مسماراً استرشادياً في الثقب ويخرج الإطار من الماء ليثبت خابوراً من اللدائن المرنة مكان المسمار ، أو قد يجد فقاعات هواء خارجة من صمام الإطار، فيغير الصمام .. مهنة بسيطة لا تتطلب مهارة كبيرة أو تدريب طويل ، كان يتقاضي من صاحب المحل مرتباً أسبوعياً ، ومع إكراميات الزبائن ونسبة هزيلة من الدخل اليومي ، كان المجموع بالكاد يغطي مصاريف معيشته ولا يتبقي منه إلا القليل يشترك به في مصروف البيت .. لم تكن هناك فرصة أو وقت لزيادة دخله ، ليتمكن من ادخار بعض النقود لمجرد التفكير في شئ آخر كالزواج مثلاً ..
عاد بذاكرته لمرحلة الصبا، عندما كان يتنزه عصر كل يوم تقريباً في الحقول خارج القرية مع إبنة عمه ناديه ، كانا متحابان وكان حلمهما أن يتزوجا عندما يكبرا ، ولم يغب عن باله أبداً تلك العبارة التى نطق بها أمام نادية ، عندما كانا يجلسان معاً ذات يوم علي شاطئ الترعة:- أعاهدك يا ناديه إني سأفعل المستحيل حتي لا تتزوجي غيري أبداً !!.. وها هو الآن لا يستطيع توفير قرش واحد لتنفيذ وعده ..
مرت الأيام وهو يصارع فكرة شريرة تمكنه من زيادة دخله ، أخيراً إستحوذت عليه الفكرة ، سيثقب ثقباً إضافياً خلسة أثناء غمر الإطار المعطوب في حوض الماء بواسطة مفك مدبب يخبئه في قاع الحوض ، وبدون أن يلحظ الزبون ذلك بالطبع.. نجحت الفكرة ، إبتسم وقال لنفسه:- ويقولون إني غبي !! ، وبدلاً أن يحاسب الزبون علي خابور واحد ، يحاسبه علي إثنين أو ثلاثة ، أو أن يقنع الزبون بحالة الإطار الذي أصبح متهالكاً ، ويبيع له إطاراً جديداً بسعر أعلي من السوق ، مستغلاً الحاجة الشديدة لصاحب السيارة لإصلاحها وإكمال طريقه .. وكثيراً ما كان صاحب المحل يغادر المحل إلي منزله لمشاكل صحية يعاني منها ، ويترك له المحل لثقته الكبيرة فيه، فتكون هذه فرصته المنتظرة لإصلاح بعض الإطارات لحسابه الخاص .. بدأت النقود تجري في يديه ، وبدلاً من زيادة مساهمته في مصروف المنزل لمساعدة والديه، كان يخبئ النقود في صندوق داخل دولاب ملابسه..
وتمر الأيام ويجمع ثروة صغيرة لم يكن يحلم بإقتنائها ، ويستعد للتقدم للزواج من حبيبته ناديه ، لكنه فوجئ بوفاة صاحب المحل ، فعرض علي أهل المتوفي شراء المحل مقابل النقود التي إدخرها ووعدهم بتقسيط باقي القيمة المطلوبة .. وهكذا تحول نبيه من عامل في المحل إلي صاحبه ، وأصبح جديراً بالتقدم للزواج من نادية ، واصل نبيه هوايته الخبيثة ، التي أدمن عليها ، وفات الأوان للتراجع عنها ، وجمع كثيراً من المال خبأه كما تعود في الصندوق داخل الدولاب وبدون علم زوجته نادية.. قال لنفسه:- ويقولون إني غبي !!
ذات يوم قرأ إعلاناً لمحافظة جنوب سيناء عن بيع محلات تم تجهيزها علي جانب الطريق السريع الذي يبدأ من السويس وينتهي في شرم الشيخ ، إهتم بهذا الإعلان وتحمس لفكرة نقل نشاطه إلي سيناء ، في اليوم التالي سافر إلي جنوب سيناء وقابل مدير مبيعات المحافظة ، الذي سأل نبيه :
- ما هو النشاط الذي ستباشره في المحل ؟ ..- إصلاح إطارات السيارات وبيع إطارات جديدة . -عظيم ! إن الطريق بين السويس وشرم الشيخ يوجد به عدد قليل جداً من محلات خدمة الإطارات ، وهو مزدحم دائما بمختلف أنواع السيارات التي تحتاج لخدمه كهذه ، فمنها السيارات السياحية التي تتجه لشرم الشيخ وعيون موسي، ومنها السيارات ت التي تتعامل مع شركات البترول في أبو زنيمة وابو رديس ورأس سدر ، وأيضا مع مناجم الفوسفات والفحم ، ويمر الطريق علي مدن كثيرة منها عيون موسي وابوزنيمة وابو رديس ورأس سدر بالإضافة بالطبع لمدينتي السويس وشرم الشيخ .
سال لعاب نبيه عندما علم بأن هذا الطريق يعج بكل تلك المركبات وسأل المدير: – وأين تقع هذه المحلات المعروضة للبيع ؟ - هناك محلات علي الطريق المزدوج السريع بين السويس وعيون موسي ، ومحلات أخري علي الطريق الفردي بين عيون موسي وشرم الشيخ
- إحجز لي من فضلك محلاً من المجموعة الأولي ، سأدفع الآن مبلغاً كمقدم وأقسط الباقي علي سنة واحدة ..
عاد نبيه إلي قريته وباع المحل كاملاً بمعداته ، وتسلم المحل الجديد بالقرب من مدينة عيون موسي، قسم المحل إلي قسمين أحدهما أمامي مطل علي الطريق ، جهزه بمعدات جديدة لإصلاح الإطارات إشتراها بالتقسيط، وبه مكان لعرض مختلف الإطارات الجديدة ، والقسم الخلفي ليقيم فيه مع زوجته .. علق لوحة مضيئة بإسم المحل :(مركز الأمانة لخدمة إطارات السيارات) !! وعلق لوحات أخري علي أعمدة الإنارة في وسط الطريق لإرشاد سائقى السيارات إلي مكان مركز الخدمة الجديد .. قال لنفسه:- ويقولون إني غبي !!
رحب به سليم صاحب المحل الجديد المجاور، والذي إفتتحه مطعماً لتقديم الشطائر والوجبات السريعة ، وهو شاب وسيم قوي البنيه خريج كلية الزراعة ، أصبحا صديقين يجلسان طيلة النهار يتحاكيان علي مقعدين متجاورين حتي يحضر زبون لإيهما.. وعند منتصف الليل يغلقا محليهما ، ويذهب نبيه إلي القسم الخلفي من المحل ليقضي الليل مع زوجته نادية ، بينما يستقل سليم سيارته إلي عيون موسي ليقضي ليلته في شقته التي يقيم فيها منفرداً بالمدينة ..
خطرت علي نبيه فكرة شريرة جديدة ، قال لنفسه : لماذا أنتظر حتي يثقب مسمار ساقط من عربة مواد للبناء عجلة سيارة ؟ لماذا لا أثبت بنفسي بضعة مسامير في مسار العجلات حتي يأتي صاحبها راكعاً يطلب الإصلاح ؟ .. كل بضعة ليالي ، وبعد منتصف الليل بنحو الساعة ، كان يغادر فراشه بهدوء ويركب دراجته ويسير بها نحو نصف كيلومتر شمالاً أو جنوباً من المحل ، ويقوم بدق مسامير في مسار العجلات .. نجحت الفكرة الخبيثة ، وزاد دخله أكثر ، وهو غير عابئ بما قد يحدث للسيارة من تلفيات أو لركابها من إصابات ..كان يتسائل : لماذا يوجد في الدنيا أغنياء وفقراء ، يجب علي الأغنياء أن يدفعوا الثمن !!
كان سليم يتمدد علي فراشه كل ليله وصورة زوجة نبيه لا تفارق خياله ويهمس لنفسة : نبيه غير جدير بنادية ، فهو خريج مدرسة صنايع بينما هي خريجة جامعية ، وهي جميلة جداً ولا تستحق أن تدفن حياتها معه، لكنه يربح كثيراً حتي إنه قال لي إنه سدد أقساط المحل ومعداته بالكامل في أقل من عام واحد !! لابد أن أراقبه .. في ليلة وبعد أن أغلق مطعمه بعد منتصف الليل تظاهر أنه يغادر بالسيارة ، لكنه إلتف بها وقبع علي جانب الطريق في الظلام يراقب محل نبيه ، بعد مدة وجيزة شاهده يغادر المحل راكباً دراجته ويتوقف بعد مسافة غير قليلة ويضيئ كشاف إنارة ، ويترجل بجانب الدراجة ، إندهش سليم جداً وقرر أن يصور ما يفعله نبيه بكاميرا هاتفه النقال .. كان مقطع هذا الفيديو المصور وسيلة فعالة للغاية لإبتزاز نادية وإقناعها إن مصير نبيه السجن إن لم ترضخ لرغباته التي إستمرت ولم تنتهي !! ..
ذات ليلة وحوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل ، سمع نبيه صوت إرتطام قوي في الطريق ، هب من فراشه ليشاهد سيارة يتصاعد منها الدخان وعمود الإنارة بوسط الطريق يخترق مقدمتها ، تناول بسرعة مضخة الإطفاء وهرع إلي السيارة وأطفأ الحريق ، نظر داخل العربة فوجد السائق ينازع الموت ، قال للسائق :- تماسك سأطلب لك عربة الإسعاف .. - لا وقت لذلك ، نهايتي تقترب ، خذ هاتفي المحمول وإتصل بآخر رقم كلمته ، إنه أبي ، أخبره بما حدث ، سيأتي سريعاً ليأخذني ، خذ الحقيبة التي بجانبي بها مليون جنيه مكافأة تستحقها لإطفاء الحريق ، قال هذا ثم لفظ أنفاسه ..
فكر نبيه قليلا وتوصل لما سيفعله، كانت الأولوية له هي تنظيف المنطقة المحيطة بالسيارة المعطوبة من المسامير، ثم فتح الحقيبة للتأكد من وجود النقود ، ثم الإتصال بوالد القتيل ليخبره بما حدث ومكان الحادث ، وأخيراً غادر المكان ومعه الحقيبة ، وصعد فوق سطح محله ليراقب ما سيحدث ..بعد دقائق معدودة وصلت لموقع الحادث سيارة سوداء كبيرة نزل منها ثلاثة رجال نقلوا الجثة لسيارتهم ونزعوا أرضية السيارة المعطوبة ، ونقلوا أكياس كثيرة بها مسحوق أبيض لسيارتهم التي إنطلقت بسرعة ..هكذا أصبح نبيه مليونيراً ، إشتري سيارة ماركة مشهورة وقال لنادية :-آن الأوان لنمتع أنفسنا قليلا ، لقد حجزت لنا غرفة في فندق فخم علي شاطئ البحر – في رأس سدر ؟ – بل في شرم الشيخ لثلاث ليالي ..
في رحلة الذهاب لشرم الشيخ بسيارته الجديدة ، أخبرته نادية أنها حامل ، لكن بداخلها لم تكن متأكدة تماماً من هو والد الطفل ، نبيه أم سليم !!، صرخ نبيه من الفرحة وبدأ يدندن بأغنية شعبية ويبتسم وهو يقول لنفسه:- ويقولون إني غبي !! .. بالقرب من مدينة رأس سدر، أشارت نادية للافتات علي أعمدة الإنارة علي جانب الطريق الفردي لإرشاد السائقين: بعد نصف كيلومتر( مركز الإستقامة لخدمة إطارات السيارات )!! لم تكمل نادية قراءة بيانات اللافته لنبيه حتي فوجئ بإنفجار إطار العجلة الأمامي ناحيته وبعد ثوان قليله ، وقبل أن يحاول السيطرة علي حركة السيارة العشوائية إنفجر إطار العجلة الخلفية أيضاً ، إستدارت السيارة ووقفت أخيراً وسط الطريق ، لم يستطع قائد سيارة نقل كانت قادمة في الإتجاه العكسي تفادي الاصطدام بسيارة نبيه الذي لقي مصرعه في الحال ، نقلت نادية إلي المستشفي مصابه وفي حالة حرجة ، وإضطر الأطباء لإجهاضها، وإنتهت بذلك حياة الجنين قبل أن تبدأ ، بسبب ثقوب في الإطارات !! …