قصة بقلم : نعمة الله رياض
لم يخطر على بال أحد من سكان القرية، أن نوال الفتاة الحسناء، وعمرها لم يتعدي التسعة عشر ربيعا ، والمتفوقة في دراستها الثانوية ، يمكن أن يحدث لها كل هذه الأحداث المفجعة ، فبمجرد حصولها علي شهادتها الثانوية وإلتحاقها بكلية الإقتصاد، وقبولها للسكن في بيت الطالبات المغتربات القريب من كليتها ، اكتشفت عالما هائلا في العاصمة غير عالم قريتها الصغيرة ، عالم مليئ بالسيارات والدراجات وكافة أنواع النقل، عالم الضجيج والازدحام والحركة الدائبة ، بهرتها المتاجر بواجهتها ومعروضاتها الجذابة، حتى مبانيها الشاهقة والتي كانت تقف أحيانا» أمام بعض منها مشدوهة وهي تعد بأصبعها ما بها من طوابق ! الأمر الذى كان يثير سخرية المارة وتعرضها أحيانا» لمعاكسة الشباب منهم !.. عالم غريب عنها تماما» غير العالم الهادئ والمحدود في قريتها الوديعة ..
نوال وحيدة والديها وقرة عينهما، تربت في مجتمع ذكوري محافظ شديد التسلط والرقابة، خصوصا»مع الإناث ، وفيه البنات يعاملن بطريقة مهيمنة من الأب والأشقاء وحتى من الأم ، فلا تمشي الإبنة إلا مع مرافق ، ولا تغيب إلا بمواعيد صارمة ، ولا تجرب أي شئ فيه المساس بسمعتها ، وإلا كان عقابها الضرب مهما كان عمرها ، وقد ذاقت نوال الوان من الضرب المبرح من ابويها حتي تسير في الطريق المستقيم ، حسب تصورهم !!
كانت سلوي شريكتها في غرفتها في بيت الطالبات طالبة في السنة النهائية بكلية الهندسة، كانت فتاة مرحة وكسبت صداقة نوال بسرعة وكانتا تذهبان معا لتناول الطعام في مطعم بيت الطالبات ، وتتنزهان معا في الشوارع المحيطة بالبيت .. كانت نوال تعاني من حساسية زائدة من أي حدث أو موقف، قد يكون ذلك بحكم تربيتها المتزمتة ، ففي مرة رجعت من كليتها وهي تبكي بحرقة ، وحكت لزميلتها ما حدث من شخص تحرش بها أثناء عودتها من الكلية لبيت الطالبات في الأتوبيس العام الذي تستقله عادة في الذهاب والعودة، وقالت لها :- لم استطع أن أفعل شيئا، كنت مقهورة وانا أبكي في صمت ، لم أعد أتحمل ذلك.. ربتت سلوي علي كتف نوال وقالت : يا عزيزتي ، هذا هو الوجه القبيح للعاصمة وازدحامها ، فهؤلاء السفلة يعتبرون الأنثي مرتعا» لنزواتهم وينتهكون إنسانيتها ، ولا يتورعون عن التحرش بالصغيرة أو الكبيرة ، بالتي ترتدي ملابس محتشمة أو المحجبة أو حتي المنقبة !! ارتمت نوال علي كتف سلوي وهي ترتجف وتسيل من عينيها دموع غزيرة ، وقالت لها :- أشعر بالقلق الشديد لإغترابي وبعدي عن أهلي ..
مر شهران من العام الدراسي الجامعي قضتهما نوال وهي متقوقعة علي نفسها ليس لها أصدقاء سوي سلوي والتي أصبحت مشغولة عنها لإنجاز مشروع التخرج .. فزاد إنطواء نوال وأحست بالعزلة التي تخنقها يوما» بعد يوم .. وانكبت علي المذاكرة والإنتظام في حضور المحاضرات والفصول الدراسية التي يدرس فيها المعيدون ، وككل فتاة تتخيل فتي أحلامها وزوج المستقبل، شعرت بالجاذبية والإعجاب بمعيد وسيم كان يدرس للطلبة، وكانت تنتظم وتتلهف لحضور فصله وحتي في غير مواعيد فصلها ، مما شد انتباه المعيد اليها وأشاد أمام الطلبة في الفصل بتفوقها في مادته .. إعتبرت نوال هذه الإشادة إعجابا» منه بها .. جاء يوم صدمت فيه عندما علمت أن هذا المعيد قد خطب طالبة أخري من نفس فصلها، فكانت الطامة الكبري وكارثة زلزلت كيانها وأججت أحزانها ..
مضت أيام قليلة علي صدمتها العاطفية القاسية، وأثناء جلوسها مع سلوي في مطعم بيت الطالبات ، لاحظت سلوي أن نوال لا تتناول الطعام ، بل تحدق في الفضاء لمدة ليست بالهينة ، سألتها عما بها ، لم ترد نوال بل حركت يديها ورجليها بدون هدف ، وبدأت تهذي بكلمات غير مفهومة وتصلب وارتجف جسمها وسقطت علي الأرض فاقدة الوعي ، مضت عدة دقائق قبل أن تفيق وتنظر حولها غير متذكرة تماما» ما حدث !! ..
مر يومان آخران ، وأثناء نومهما في الغرفة ، إستيقظت سلوي فلم تجد نوال علي فراشها ، بل وجدتها تمشي في الحجرة جيئة وذهابا وهي مغمضة العينين !! ، وعندما حاولت إيقاظها، صرخت نوال فجأة في وجهها وهي جاحظة العينين .. ثم سقطت علي الأرض فاقدة الوعي ..
قررت سلوي أن تصحبها في اليوم التالي لمستشفي الطلبه ..
شرحت سلوي للطبيب ما حدث لصديقتها وبعد فحصها قال لها :
- ما يحدث لصديقتك هي نوبات صرع متكررة ..
- وما سبب هذه النوبات ؟
- هي خلل في الجينات المسؤولة عن نقل الاشارات الكهربائية في داخل المخ. وقد يكون سببها الحساسية الشديدة عندها أو التعرض لحادث أو التأثر بعوامل بيئية مفاجئة..
- وما هو العلاج الذي تنصح به؟
- عليكما بالذهاب لطبيب متخصص ، يصف لها دواءا» يمكنه ان يجنبها النوبات الصرعية أو يقلل من درجة حدتها ووتيرة حدوثها ..
في عيادة الطبيب الأخصائي ، أجريت لنوال فحوصات واختبارات لحركات العضلات ومخطط لكهربية المخ ، ووصف لها دواءا» يؤخذ في مواعيد مضبوطة طبقا لوصفه، ولا ينبغي التوقف عنها بأي حال من تلقاء الذات ، ولكن الطبيب ذكر أهمية المتابعة معه ، لإن بعض المرضي يحدث لهم تأثير عكسي فتزداد عدد النوبات وحدتها . فحينها قد يقرر العلاج الإشعاعي أو الجراحي ..
خرجت نوال من عيادة الطبيب الأخصائي وهي تبكي بشدة ، وتوسلت لصديقتها أن تسافر معها لقريتها لتوصيلها لأبويها ، لأنها لا تأمن على نفسها في السفر منفردة وهي بهذه الحالة .. وافقت سلوي ووعدتها بزيارة أخري للإطمئنان عليها في العطلة الأسبوعية التالية.
مكثت نوال في بيتها بالقرية ولم تغادره ، وداومت علي تناول الدواء في مواعيده ، لكن حالتها لم تتحسن ، بل ازدادت عدد النوبات وحدتها ، فكانت خلالها يهيئ لها أشياء تتحرك ذاتيا» وتقع علي الأرض ، وأحيانا تتبول لا إراديا» علي فراشها، وفي أحيان أخري ، كانت يحدث لها تشنجات حادة وتصدر أصوات غريبة باللسان ، بل كانت أحيانا تهذي بكلمات غير مفهومة أثناء تلك النوبات ..
لم يستطع الوالدان تحمل هذا التدهور في حالة ابنتهما ، فتناول الأقراص لم تحسن من حالتها .. قال لهم أحد الأقارب : – لابد أن أرواحا» شريرة قد سكنت إبنتكما وأشار عليهما بالإستعانة بالعم / سعد حبيب ، وهو رجل مشهور بمهارات خاصة في إخراج الأرواح الشريرة من المرضي مهما كان عمرهم أو دينهم ..
في أول زيارة لسعد حبيب لحجرة نوال ، طلب من والديها وقف تناولها للدواء لإن له تأثير يكبح العلاج الروحي ، وأخبرهم أن كل نوبة تصيبها هي محاولة من الشيطان للتمكن من روحها .. وإنه من الضروري معرفة إسم الشيطان للبدء في العلاج .. طلب من والديها تكبيلها على مقعد بجانب فراشها تحسبا» لأي رد فعل منها.. وهنا صرخت نوال وأخذت تسب والديها وسعد حبيب بأقذع الألفاظ وحاولت حل قيودها .. قال سعد مخاطبا» ما يعتبره الشيطان الساكن في جسدها: - ما إسمك ؟ قل لي ما إسمك ؟
- لا أعرف، لا أعرف !!
أمسك سعد بأصبعها الصغير وأضاء شمعة وقام بإحراق يدها بالشمع المنصهر - ما إسمك ؟ قل لي ما إسمك ؟
صرخت نوال مرة أخري من الألم ، وتغيرت ملامح وجهها إلي، شيئ مخيف،
وبصقت في وجه سعد وقالت له : أنت هو الشيطان، أنقذوني من هذا الشيطان ،
صرخ سعد بصوت جهوري آمرا» الشيطان أن يخرج من ذراعها بدلا من عينها ..
واصلت نوال الصراخ بينما كان سعد يتلو عليها بعض الأدعية والتعاويذ، ثم سأل ما يعتبره الشيطان عن إسمه فلم ترد نوال .. أمسك سعد بعصا وضربها على يديها وذراعيها ضربا» مبرحا» ، وهو يصيح ما أسمك ؟ صرخت نوإل صرخة عالية وفقدت الوعي .. قال سعد لوالديها:- لم أصادف أبدا حالة بمثل هذه الصعوبة ، سأحضر مرة أخري بعد غد في جلسة أخري، إمنعوا الفتاة من الحركة وكبلوها على الفراش حتي لا تؤذي نفسها أو الآخرين ريثما أحضر..
في عطلتها الأسبوعية ، سافرت سلوي لقرية نوال لزيارتها والإطمئنان عليها .. هالها ما رأته من تدهور حالتها وما شاهدته من كدمات وحروق في جسدها وهي مكبلة على فراشها ، نصف نائمة تتأوه من الألم ..هرعت سلوي لوالدها وسألته: - ماذا حدث لإبنتك ؟
- كما ترين لم يأتي العلاج الطبي بنتيجة ، بل تدهورت حالتها..
- وهل انتظمت في العلاج بالاقراص؟
- نعم ، إلى أن طلب العم سعد إيقافها ، لأنها تعطل العلاج الروحي.
- ومن هو العم سعد هذا ؟
- انه رجل مبروك ، يخرج الشياطين ، وإستدعيته من أجل إبنتي .
- وهل هو الذي أحدث بها هذه الكدمات والحروق؟ .. هز رأسه بالإيجاب..
- الا تتألم انت وزوجتك وانتما تشاهدانه يفعل ذلك ؟
- نعم وزوجتي تنتحب طيلة الجلسة ، ولكننا ندرك أن ذلك لمصلحتها !!
- إسمح لي يا سيدي، إن تشخيصكم خاطئ ، فابنتك ليس بها شيطان أو شيئ شرير، ان ما بها مرض معروف في الطب يسمي الصرع وهو نتيجة نشاط غير عادي في المخ ، وله علاج قد يطول ولكنه يأتي بنتيجة حسنة في النهاية ، وعندي إعتقاد جازم ، انه لا يجب أن ترتفع الخزعبلات والخرافات التي تتستر وراء الدين، فوق العلم والعلاج الطبي..
- يا إبنتي ، اتركينا من فضلك ، فنحن نؤمن بقضاء الله وقدره ..
إنصرفت سلوي وغادرت للعاصمة ، وهي حانقة وحزينة على صديقتها نوال ..
في الجلسة الثانية ، دخل سعد حبيب غرفة نوال وهو عازم على معرفة اسم الشيطان الساكن فيها بأي طريقة ، أجلست نوال وتم تكبيلها ووضع سعد يده على رأسها ، وبدأ يتلو الأدعية وطلب من الشيطان مفارقة جسدها .. لم ترد نوال ، فقد سعد سيطرته على نفسه وصرخ في الشيطان يسأله عن اسمه وتناول العصا وضربها بعنف في جميع أجزاء جسمها كانت تصرخ بأعلى صوتها، أصابت احدي الضربات القويه جبهتها ففقدت وعيها .. غادر سعد الحجرة مسرعا» وهو يحدد للوالدين موعدا» لجلسة أخري ..
حمل الوالدان الفتاة إلي فراشها ، قالت الأم : أتركها تستريح حتى الصباح ، ستشفي بأذن الله ..عند بزوغ شمس اليوم التالي دخلت الأم لتوقظ ابنتها ، نادتها لتصحو ، هزت كتفيها وهي منزعجة ، لم تفتح نوال جفنيها قط ….