بقلم: شريف رفعت
لم يكن هناك شيئا مميزا أو صارخا حوله، فهو هادئ منطوي تكاد لا تشعر بوجوده، أقابله نادرا أثناء نزولي من أو صعودي إلى شقتي فأحييه و قد أتبادل معه بعض العبارات العابرة، يقطن بمفرده في الطابق الرابع في الشقة التي تعلو شقتي، لم يسبب لي يوما أي إزعاج، فلا ضجيج يصدر عن شقته و لا أشياء تسقط من شرفته على شرفتي، إلى أن جاء يوم لاحظت تكون بقعة صفراء على سقف حجرة جلوسي، بقعة صفراء قبيحة دائرية في حجم رغيف الخبز ناتجة بلا شك عن نـَشْع مياه من شقة جاري، صعدت له، فتح باب الشقة متوجسا، فوجئ برؤيتي الغير متوقعة، بدأته بالتحية و أخبرته عن الماء الذي ينـْشـَع من شقته على سقف حجرة جلوسي، صمت الرجل برهة كأنه يحتاج لبعض الوقت كي يفهم ما أتحدث عنه، طلب مني الانتظار و توجه إلى الحجرة التي تعلو حجرة جلوسي، كان باب الحجرة مفتوحا شاهدت من خلاله و أنا في مكاني عشرات النباتات و الشجيرات الصغيرة في أحواض و أصص و مزهريات مختلفة الأشكال و الأحجام بعضها على الأرض و بعضها على أرفف، من خلال الباب أيضا أمكنني رؤية الشرفة المحاطة بالزجاج و المليئة هي الأخرى بالنباتات فتحولت إلى ما يشبه الصوبة الزجاجية، كان اللون الأخضر الهادئ يملأ فراغ الغرفة و يشع بوهج جميل خارجها، يتخلل الخضار السندسي ألوان زاهية لبعض الأزهار المتفتحة نامية في أصصها أو على أفرع الشجيرات التي حولت الغرفة إلى حديقة نباتات ساحرة.
عاد الرجل سريعا و اعتذر لي بحرارة شارحا أن المياه التي يستخدمها لري نباتاته فاضت عن طريق الخطأ من أحد الأحواض و تسربت من أرضية الحجرة و نَشَعَت على سقف حجرتي، أبدى تعجبه من رداءة المبنى التي سمحت بذلك النَشْع، ثم كرر اعتذاره و وعد أن هذا لن يحدث مرة أخرى.
شعرت بعد انصرافي أني تسرعت في مغادرة شقته، كان مفروض أن أبادله الحديث و أعرف منه حكاية هذه النباتات التي تملأ حجرة بأكملها بالإضافة للشرفة الملحقة بها، لكن الفرصة سنحت لي لاحقا فقد شاهدته جالسا في ركن بالمقهى القريب من سكننا، ترددت برهة هل أذهب أتحدث معه أم أحترم وحدته و أتركه في حاله، تغلب علي فضولي، توجهت إليه حييته ببشاشة و سألته عن حاله، رد بشيء من التردد كأنه يتعجب لسؤالي أن أحواله لا باس بها، سألته إذا كان يمكنني مشاركته منضدته، أعتَقِد أني أربكته بهذا الطلب لكنه اضطر لقبول صحبتي حيث أنه ليس من اللياقة رفضها، ظل صامتا بعض الوقت فأدركت أن مسئولية بداية و استمرار الحوار ستكون على عاتقي، سألته:
ـ حضرتك تعيش بمفردك؟
أجاب:
ـ لا، أعيش مع نباتاتي.
ـ ظريف جدا أن تعيش مع نباتاتك، على الأقل لن يسببوا لك متاعب.
ثم محاولا الاستظراف أكملت:
ـ طبعا ما عدا مشكلة المياه التي نشَعَت على شقتي.
ـ لا، مياه النـَشْع كانت مشكلتي أنا، أنا من أهملت في كمية المياه التي رويت بها النباتات.
قلت له مشجعا:
ـ جميل أن يكون عند سيادتك هواية العناية بالنباتات هذه.
نظر لي مستنكرا ثم قال:
ـ النباتات ليس هواية، إنها حياتي، أعتني بها، أرويها، أغذيها إذا احتاجت لتغذية أطمئن عليها قبل أن آوي لفراشي و أحيانا كثيرة أتحدث إليها.
هممت أن أسأله “و هل ترد على حديثك؟” لكني لم أرغب أن يشعر أني أسخر منه.
بعد هذا اللقاء تكررت رؤيتي لجاري، أمر غريب، هل مجرد صدفة أني أراه دائما الآن، أم أنه كان موجودا من قبل لكني أنا الذي لم ألتفت لوجوده حتى واقعة نشع المياه، تعدد جلوسنا معا على المقهى، أحيانا كان هو الذي يأخذ المبادرة و يأتي ليجلس على منضدتي، خيل لي أنه سعيد بأن هناك من يستمع له عندما يتحدث عن نباتاته، كان حديث النباتات هو الحديث الغالب على جلساتنا، يخبرني عن أنواعها المختلفة، يعرف أساميها الأجنبية، الـﭽـيرانيوم و الدراكينا و أنواع الأيـﭭـي و الفيرن المختلفة، يحكي لي عن طباعها، أيهم المُرَفهة التي تحتاج لعناية خاصة و الأخرى القوية التي تتحمل الظروف المختلفة، كل نبات على حد قوله له شخصيته المميزة، و هو بحكم العـِـشْرَة خبير في معرفة هذه الشخصيات.
كلما حاولت تغيير الحديث لأي موضوع آخر، يظهر جاري تبرمه و يعود للحديث عن نباتاته أو كما يسميها عالمه، أخبرني أنه يمضي ساعات طوال مع الكتب و الإنترنت كي يعرف أكثر عن هذه النباتات، اعتاد عندما يضيف نباتا جديدا يحكي لي عنه بحماس و يبلغني أخباره أول بأول.
في أحد لقاءاتنا أراني جاري سي دي معه لموسيقى كلاسيك ثم قال:
ـ إنها سيمفونية “الفصول الأربعة”، النباتات ستحبها لأنها هادئة تساعدها على التركيز و بالتالي على النمو.
قلت له مداعبا
ـ لماذا لا تسمعهم أغاني مثل “الورد جميل” أو “مين يشتري الورد مني” ألا يكون ذلك أنسب لهم؟
أجاب بمنتهى الجدية:
ـ لا، إنهم يفضلون الموسيقى الغربية الكلاسيكية، فَهُم نباتات راقية ذات مزاج عالي.
لم أسأله عن أفراد عائلته و لم يتطوع هو بالحديث عن أي موضوع غير موضوع النباتات، شعرت أن لقاءاتي به أصبحت مكررة و مملة، قررت أن أحتفظ بمسافة معينة بيني و بينه، لكني في نفس الوقت كنت أشعر بشيء من الشفقة حياله، قلت له:
ـ لو احتجت لأي مساعدة ـ بسبب كونك وحيد ـ اتصل بي، هذا هو رقم هاتفي.
ـ شكرا و لكني لست وحيدا فمعي نباتاتي.
ـ أعلم ذلك لكني أعتقد أن في أي حالة طوارئ النباتات لن تساعدك.
الأيام التالية تجنبت المقهى كي أرتاح من أحاديث جاري المعادة، كنت أفكر فيه أحيانا و أشعر نحوه بالشفقة، حيرني سؤال عن مدى واجبي نحو أفراد يحتاجون للمساعدة نتيجة ظروفهم لكنهم في نفس الوقت يفكرون و يتصرفون و يعيشون بطريقة غير سوية، هل مفروض أن أتحمل أطوارهم المتعبة هذه و أظل أساعدهم بدافع الشفقة؟
لكن جاري لم تـُتـَح له الفرصة للاستفادة من عرض مساعدتي، فقد انقطعت عني أخباره و لم أعد أراه، بعد بضعة أيام صعدت لشقته وطرقت الباب برفق، ثم بعنف، ولم يستجب أحد. استدعيت حارس البناية و الذي فتح الباب، لا أريد أن أستعيد الذكريات الأليمة، لكنى وجدته ملقى على الأرض جثة هامدة وإن كانت الرائحة لم تفح بعد. وعن قريب كانت النباتات تبدو فى المحراب المقدس كما هى خضراء زاهية جميلة. وبقدمين مرتعشتين دخلت لأتفقدها. وهناك كانت المفاجأة المذهلة! تحسستها بيدى فلم أصدق حواسى. النباتات كلها كانت بلاستيكية صناعية.