بقلم: نعمة الله رياض
حدث هرج ومرج في دوار العمدة بعد صلاة العشاء، ففي الجلسة التي تنعقد كل يوم في هذا الميعاد ، يجلس العمدة الحاج/ عبد الغفار في صدر قاعة الدوار ، يستمع فيه إلي شكاوي الأهالي ويناقش طلباتهم .. ذات ليلة وفي منتصف الجلسة أحس العمدة بصداع شديد في رأسه وسقط مغشيا عليه ، أسرع طبيب لنجدته كان حاضرا الجلسة وهو من أهالي القرية ، وقام بتقديم الإسعاف اللازم ونصح الأهالي المجتمعين للسؤال عنه بالإنصراف وتولي حقنه بالمحاليل وإعطائه الدواء .. تم إفاقة العمدة ونقله إلي غرفته بالطابق العلوي بمنزله وتولت إمرأه من الأهالي العناية به ، لكن حالته الصحية تدهورت مما استدعى نقله إلي مستشفي تخصصي بالمدينة المجاورة .. كان للحاج /عبد الغفار ثلاثة أبناء وابنة واحدة ، الابن الأكبر يسري مقدم في الجيش ويسكن في حي الماظة بالقاهرة مع زوجته نادية وله إبن في المرحلة الثانوية ، والابن الأوسط حاتم تاجر قطع غيار سيارات ويسكن في الجيزة مع زوجته فايزة ، وله إبنة في المرحلة الإعدادية والابن الأصغر حلمي مقيم في القرية مع والديه ويتولي الإشراف علي الأرض الزراعية التي تملكها العائلة ، ولم يتزوج بعد ، أما الإبنه الصغرى صفية ، فهي تقيم مع أخيها الأكبر وتدرس في جامعة القاهرة .. عندما علم الإبن الأصغر حلمي من المسئولين في المستشفي بحالة والده المتدهورة ، وانه قد تم عمل كل ما يمكنهم في حالته، إتصل علي الفور بأخيه الأكبر المقدم / يسري وشرح له حالة الوالد وما قاله الأطباء ، أدرك يسري أن والده يحتضر ويمكن ان يفارق الحياة في أي وقت ، فإتصل بشقيقه حاتم المقيم في الجيزة وأخبره بحالة الوالد وإنه يعتزم السفر لقريتهم وعرض عليه السفر معه للاجتماع مع العائلة ولكي يلتقي بوالده ، فربما يكون هذا اللقاء هو الأخير! .. باكراً في صباح اليوم التالي غادرت سيارتان ، الأولي يقودها المقدم/ يسري ومعه زوجته وابنه وصفية شقيقة يسري ، والثانية يقودها حاتم ومعه زوجته وإبنته .. وصلوا للقرية الساعة الحادية عشرة صباحا.. علي باب الدوار، كان في إستقبالهم نباح كلاب الحراسة ، عندما دخلوا الفناء كان أشبه بالحظيرة، بقرتان مربوطتان في ركن منه وتتجول فيه الماشية من خرفان وماعز بالإضافة إلي أقفاص الدواجن وأقفاص الأرانب ، كما يمكن الخروج من باب الدوار الداخلي إلي حديقة صغيرة مزروعة بأشجار الفاكهة كالبرتقال والمانجو والجميز.. شق الزوار طريقهم مباشرة إلي الدور العلوي حيث غرفة الحاج/ عبد الغفار ، وجدوه راقداً علي فراشة مغمض العينين، وترتفع أحياناً يده في الهواء وهي ترتعش مشيرة إلي شئ مجهول ، ربما لوصية يريد إملاءها ، أما باقي الجسم فهو ساكن تحت الأغطية ، وكان يهذي بكلمات غير مفهومة.. أعطي الواقفون حول الفراش كل إهتمامهم لصدره الذي يعلو ويهبط وأنفاسه المتقطعة والمتشنجة ، وأدركوا أنها علامات النهاية وإنه في النزع الآخير ، انسحب معظم الحاضرين وغادروا الغرفة من هول الموقف .. كان للأطفال وصغار السن فرصة قصيرة لكي يداعبوا الكلاب والماشية بإشراف حلمي وصفية قبل ان ينضموا الي الكبار لتناول طعام الإفطار ، بالرغم من إرهاق السفر والحزن علي حالة العمدة ، إلا أن الجميع تجمعوا بحماسة لتناول الطعام ، فضل الحاضرون الجلوس علي الأرض حول الطبلية ، وهي مائدة خشبية مستديرة بأرجل قصيرة ، حفلت الطبليه بأصناف شهية للإفطار ، أطباق الفول والطعمية وشرائح الباذنجان المقلي والبيض المسلوق والمحمر في السمن البلدي وحساء العدس وأطباق الحلاوة الطحينية وسلطانيات الرقاق المغموس في اللبن الحليب ، كذلك الفطير المشلتت الذي يؤكل مع الجبنة البيضاء أو العسل الأبيض .. بعد الإفطار توجهت كل أسرة إلي الغرفة المخصصة لها ليأخذوا قسطاً من النوم .. في الظهيرة كان يمكن بوضوح سماع صوت نادية زوجة المقدم/ يسري وهي تعنفه لأنه لم يحضر معه البدلة الميري ليمشي بها في جنازة والده عند وفاته المتوقعة ، كذلك سماع صوت الإبن الأوسط حاتم وهو يطلب من شقيقه حلمي الإتفاق علي حجز سرادق العزاء وتكليف مقرئ لتلاوة القرآن ، أحضرت زوجات الأبناء وصفية ابنة العمدة فساتين سوداء لتلقي العزاء من سيدات القرية .. كان من المقرر أن تستمر إقامة الزوار ثلاثة أيام للجنازة وتلقي العزاء ، لكن العمدة لم يزل علي حالته المتأرجحة بين الحياة والموت كأنه يرقص رقصة الموت !! في اليوم الثالث إسترد وعيه تماماً وطلب طعاماً ليأكله ، كما رحب بأولاده وأسرهم !! وسط دهشة الجميع المؤمنين بقدرة الله تعالي ، قرر الزوار العودة لأعمالهم وهم يدعون لله أن يطيل للعمدة عمره ..
الموت المرعب ، ذلك الفارس الأسود متدثراً بوشاح قاتم وراكبا حصانه الأسود ، قابضاً علي سيفه البتار يطيح به يميناً ويساراً في رقص لا ينتهي مع كل الكائنات الحية ، ينتصر فيها دائما الفارس الأسود ويسقط غريمه مهما طال عمره ..عاش الحاج/ عبد الغفار بعد هذه الزيارة تسعة أعوام وخمسة أشهر والتي أفلت فيها إلي حين من سيف فارس الموت البتار ، وقد وافته المنية في الرقصة المؤجلة مع فارس الموت ..