بقلم: د. حسين عبد البصير
معبد الملكة نفرتاري
يقع معبد أبو سمبل الصغير أو معبد جميلة الجميلات الملكة نفرتاري إلى جوار المعبد الكبير الخاص بزوجها الفرعون الشهير الملك رمسيس الثاني. ومن أجل الجميلة نفرتاري بنى لها زوجها ذلك المعبد المتميز في الصخر الطبيعي. ونحتت تماثيل عديدة في واجهة المعبد تمثل الملك العظيم وزوجته الجميلة التي أبهرت العالم قديما وحديثا بجمالها وجاذبيتها وعذوبتها ورقتها التي لا تقاوم. ثم تتوالى الأجزاء المعمارية المكونة لهذا المعبد المهم. وصارت نفرتاري الزوجة الرئيسة للملك رمسيس الثاني، على الرغم من تعدد زيجاته ومحظياته. وكانت نفرتاري أم ستة من أهم أبناء الملك رمسيس الثاني. ومن فرط حبه الشديد لزوجته فائقة الجمال، أمر الملك المعظم بإنشاء مقبرة رائعة لها في وادي الملكات.
حملت منطقة وادي الملكات في مصر القديمة أسماء عدة مثل «الوادي العظيم» و»الوادى الجنوبي» و»تا ست نفرو» ويعنى الاسم الأخير «مكان الجمال»، وشاع أكثر من الاثنين السابقين، وأسَّس في البداية كجبانة مخصصة لدفن نساء الطبقة المالكة من المجتمع المصري القديم في بداية عصر الدولة الحديثة على الشاطئ الغربي لنهر النيل المواجه لمدينة الأحياء في شرق طيبة (الأقصر الحالية). ولم تبدأ الحفائر العلمية المنظمة إلا في عام 1903م، بوصول الإيطالي الشهير «إرنستو سيكياباريللى» (1856-1928م) -مدير المتحف المصري في تورينو-وحصوله على التصريح بالتنقيب في الوادي من مصلحة الآثار، فنجح في اكتشاف مقبرة الملكة الفاتنة نفرتاري، جميلة الجميلات.
ومنذ العثور على هذه المقبرة الجميلة، اعتبرت واحدة من أجمل المقابر التي أبدعتها مخيلة المصريين القدماء فكرا وأداء، فبلغت الرسوم المصورة على جدرانها وممراتها 520 مترًا مربعا من الجمال الساحر. وحين اكتشفها سيكياباريللى في عام 1904م، فتح الباب ليطل العالم على واحدة من أجمل الإبداعات الفنية في العالم عبر تاريخ الفن البشرى الطويل، وعلى واحدة من أجل وأجمل المقابر القادمة من مصر الفرعونية ذات الرسوم التي تخلب الأبصار وتسحر العقول بجمال مناظرها وتنوع موضوعاتها ونقاء وصفاء ألوانها. وأصبح من المفضل عند عشاق الجمال الراغبين في نشدان البهجة زيارة هذه المقبرة للنهل من جمالها الأخاذ، وأصبح الجمال علامة وعنوانا عليها وعلى صاحبتها، جميلة الجميلات، كما كانت الحال في حياتها الأولى المليئة بالجمال والحب والسعادة والعشق وفى عهد مليكها العاشق الأبدي لها ولجمالها التي كانت تنافس به حتحور ربة الحب والجمال عند قدماء المصريين. وتحول الطموح الفني الذي راود وساور صاحبتها ومبدعيها إلى حقيقة واقعة واضحة كوضوح الشمس في كبد السماء في نهار مشمس رائق العذوبة.
ملحمة عالمية لإنقاذ معبديّ «أبو سمبل»
كانت حالة المعبدين جيدة إلى أن بدأ ارتفاع منسوب نهر النيل الذي بدأ ينتج عن بناء السد العالي وبحيرة ناصر من خلفه مما كان سببا قد يهدد بغرقهما، مما جعل من الضروري نقلهما للحفاظ عليهما من الغرق. وكانت عملية نقل معابد أبو سمبل من أصعب عمليات نقل المباني على مر التاريخ حيث كان التحدي كبيرًا أمام المهندسين المعماريين والآثاريين على حد سواء كي ينجحوا في تنفيذ ذلك المشروع العملاق، خصوصا أن التحدي الأصعب أمامهم كان الحفاظ على الزوايا الهندسية والقياسات الفلكية كي تستمر ظاهرة تعامد الشمس على وجه الفرعون الأشهر الملك رمسيس الثاني مرتين في العام. وتم القيام بعملية إنقاذ لمعبديَّ أبو سمبل من الغرق عقب بناء السد العالي في ستينيات القرن العشرين واستمرت تلك العملية عدة سنوات. وتم نقل معبدي أبو سمبل من موقعهما اللذين كانا فيهما إلى الموقعين الحاليين اللذين هما فيهما اليوم على الهضبة الشرقية بارتفاع حوالي 64 مترًا فوق الموقع القديم وحوالي 180 مترًا إلى الغرب من موقعهما الأصلي.
تمت عملية نقل المعبدين على عدة مراحل. وفى المرحلة الأولى، تم إقامة سد عازل بين مياه نهر النيل الخالد وبين المعبدين لحماية المعبدين من الغرق في المياه التي كانت ترتفع بسرعة. وفى المرحلة الثانية، تمت تغطية واجهة المعبدين بالرمال أثناء تقطيع الصخور المكونة لهما. وفى المرحلة الثالثة، قام المهندسون البارعون بتقطيع كتل المعبدين الحجرية ثم ترقيمها حتى يسهل تركيبها بعد النقل، قبل أن يتم نقلها إلى مكان المعبدين الجديد.
وبعد نقل جميع الأحجار من موقعها القديم، تم البدء في المرحلة الرابعة، وكانت عبارة عن تركيب الأحجار مرة أخرى بداية من قدس الأقداس إلى واجهة المعبدين. كما تم بناء قباب خرسانية تحت صخور الجبل الصناعي فوق المعبدين لتخفيف حمل صخور الجبل على المعبدين. وبذلك تم نقل معبديَّ «أبو سمبل» العظيمين بنجاح ساحق ليصبح نقلهما أحد أهم وأكبر مشاريع القرن العشرين الضخمة والدقيقة التي تطلب تنفيذها الحفاظ على تعامد الشمس على وجه نجم الأرض الفرعون الأشهر الملك رمسيس الثاني.
وفي النهاية، فإن مشروع إنقاذ آثار النوبة وتحديدًا معبديّ أبو سمبل الكبير والصغير، الذي تبنته منظمة اليونسكو العالمية، سوف يظل علامة ساطعة كالشمس وبراقة الوضوح وناصعة الضياء على تكاتف المجتمع الدولي في لحظة ما من عمر وتاريخ وحضارات الأمم من أجل إنقاذ آثار النوبة العظيمة من الغرق في مياه بحيرة ناصر التي خلقها السد العالي من ورائه، ليس كبحيرة صناعية تتراكم فيها المياه بغزارة خلفه، بل كبحيرة حضارية تجمع وتربط بين أبناء وادى النيل الواحد في الشمال في مصر وفى الجنوب في السودان، وفى واحدة من أروع مشروعات القرن العشرين الثقافية والحضارية الكبرى التي لا تنسى والتي اتحدت فيها بصدق البشرية جمعاء على كلمة سواء من أجل الحفاظ على تاريخها الجمعي من الضياع في فترة زمنية من عمر الشعوب لا تتكرر كثيرًا.
ولا يمكن أن ننكر أبدًا أنها جاذبية مصر وتاريخها وحضارتها وآثارها التي لا تقاوم والتي يقف العالم أجمع انحناءً لعبقرية البناء المصري القديم الذي جعل الحجر يتكلم ويحكى لنا حكايته التاريخية المجيدة التي ما تزال تبهرنا إلى الآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولا يمكن أن نغفل دومًا أنها قصة مصر الخالدة المتوهجة دومًا والعظمى حضاريًا دائمًا وأبدًا ذات الفصول والقصص والحكايات التاريخية التي لا تنتهي، وتعد قصة إنقاذ آثار النوبة واحدة من قصصها الحضارية العديدة التي نستنشق عبيرها وعبقها آناء الليل وأطراف النهار.
مصر وأفريقيا
كانت أفريقيا مهمة للغاية لدى المصريين القدماء. ومنذ أقدم عصور الحضارة المصرية القديمة لعب الفراعنة دورًا كبيرًا في الانتشار في أفريقيا وكشف معالم هذه القارة القديمة العظيمة. وقام الفراعنة بتمصير القارة الأفريقية منذ بدايات التاريخ المصري القديم. وكانت أفريقيا هي العمق الجنوبي للحضارة المصرية. وأمدت أفريقيا مصر والمصريين القدماء بالعديد من السلع والمنتجات التي كان المصريون القدماء يحتاجون إليها من أجل تشييد حضارتهم العظيمة.
وقام فراعنة بداية الأسرات المصرية القديمة وعصر الدولة القديمة بتعزيز العلاقات التجارية والدبلوماسية مع أفريقيا وإرسال البعثات والوفود لجلب المنتجات الأفريقية إلى مصر القديمة. وكانت أفريقيا منجمًا لمصر القديمة؛ نظرًا لوجود العديد من المنتجات التي لم تكن موجودة في مصر القديمة في تلك الفترة.
وبدأت العلاقات المصرية القديمة مع الجنوب منذ أقدم العصور. وكانت فترة ما قبل الأسرات شاهدة على التواصل والتداخل الحضاري بين مصر وجنوبها. وكانت فترة الأسرات المبكرة مهمة جدًا في تأسيس الدولة المصرية وتحديد الأولويات بالنسبة لها وكيفية التفاعل والوجود مع جيرانها إلى الجنوب من حدودها التي كانت متغيرة. وكان نهر النيل هو شريان الحياة الذي يربط بين وادي النيل شمالاً وجنوبًا. وكانت النوبة هي الملعب المصري الأثير في المنطقة سواء النوبة السفلى أو النوبة العليا. ونرى منذ بدايات الحضارة المصرية الوجود المصري فاعلاً للغاية ومؤثرًا في الجنوب.
التكملة في العدد القادم