بقلم: نعمة الله رياض
جلس صبري علي رصيف الشارع ، مستندا بظهره المكدود علي جدار منزل قديم خالي من السكان ، أخرج من حقيبته طبق من الفوم مغلف بغطاء نايلون شفاف ، أعطاه له صاحب سيارة فارهة ، يحتوي علي وجبة من الأرز والخضار وقطعة من اللحم ، تناول نصف ما في الطبق وتركه علي الأرض أمام كلبه الرابض بجوارة ينظر اليه والي الطبق الموجود أمامه علي الأرض منتظراً إشارة صاحبه ، التي ما إن حصل عليها حتي إنقض علي محتويات الطبق يلتهمها ثم أخذ يلعق ما تبقي منه حتي تركه نظيفا كما لو كان مغسولاً لتوه ! أخرج صبري زجاجة مياة من الحقيبة وشرب منها جرعتين وصب قليلا من المياه في طبق الفوم ونادي شيكو ، وهذا هو اسم كلبه، ليشرب ، لعق شيكو كل ما في الطبق وربت علي ركبة صاحبه بقدمه الأمامية يطلب مزيداً من المياه، لبي طلبه .. أخذ صبري يتفحص بعينيه الشارع في ذلك الطقس الحار ، الذي تمر فيه سيارات قليلة .. ليس له مسكناً يأويه ، يقضي ليلته نائماً علي رصيف الشارع ملتحفا بالسماء أو يقبع مستتراً تحت منازل الكبارى . . مر بكف يده علي ظهر شيكو يداعبه ، إنه كل ما ورثه عن والده الراحل الذى كان يعمل حارساً علي باب مدرسة نوتردام للبنات وكانت إدارة المدرسة توفر له حجرة بجانب سور المدرسة يسكن فيها مع أسرته ، وعندما توفي الأب طلبت إدارة المدرسه من صبري وزوجة ابيه إخلاء الحجرة ليشغلها حارس جديد .. إنتقلت زوجة الأب لمنزل أهلها وأخبرت صبري أنه ليس له مكان معهم !! وهكذا غادر صبري مدرسة نوتردام إلي المجهول ، مصطحبا كلبه العزيز شيكو ، وهو من نوع مميز يطلق عليه جولدن ريتريفر ، مظهره جذاب وشعره ذهبي ويحب اللعب بالكرة والصحن الطائر، ويتميز بذكاء ملحوظ عند تدريبه ، كانت أسرة إحدي طالبات المدرسة قد اهدته لوالده بسبب إعتزامها الهجرة للخارج ، ومن يومها تولي صبري رعاية الكلب شيكو وأصبحا لا يفارق أحدهما الآخر ..إلي متي يتحمل هذه الحياة الصعبة ؟، ولمن يلجأ ؟ وماذا يخبئ له القدر ؟ أسئلة حيرته وأربكته ، لم يجد لها إجابة حتي من أولاد الشوارع الذين يعيشون بلا مأوي أو دخل ، يعيشون عميقاً تحت خط الفقر في قاع المجتمع ، يلجأون إلي السرقة والنشل أحياناً أو ينظفون زجاج السيارات المنتظرة في إشارات المرور أو يجمعون البقشيش مقابل حراسة السيارات المتوقفة بجانب الأرصفة ، معظمهم يتعاطون المخدرات ويمارس بعضهم البغاء والشذوذ أو يقعوا في براثن عصابات خطف اطفال الشوارع وتجارة أعضائهم الآدمية كقطع غيار للمرضي الموسرين … لا ،لا ، لن ينضم لهذه التجمعات المشبوهه من أولاد الشوارع، فقد رباه والده تربية حسنه بل إنه توسل لمدرسي ومدرسات المدرسة التبرع بتعليمه في وقت فراغهم ، فأصبح يتكلم قليلاً من اللغة الفرنسية ويعرف قراءة وكتابة اللغة العربية وبعض العمليات الحسابية ، كانت هذه القدرات سبباً في إعتزازه بكرامته ، والتي دفعت أولاد الشوارع أن يلقبوه علي محمل التهكم ، بشحاذ نوتردام !!! .. فكر كثيراً في الإنتحار ، لإنه لم يجد أملاً في حياته ، لكن كيف يعيش شيكو بدونه ، إنه يلازمه كالظل في كل خطوة يخطوها ، راضياً بالطعام القليل الذي يوفره له صاحبه ، فكر في ترك شيكو نائماً في حديقة عامة والإختباء بعيداً عنه وراء شجرة ليتابع ما يحدث له ، بعد قليل مر رجل وزوجته وابنتهما وشاهدوا الكلب نائماً بدون صاحب ، جرت الطفلة نحو الكلب وأيقظته وربتت علي ظهره وأعطته قطعة بسكويت فالتهمها في الحال ونظر إلي الطفلة وهز ذيله بإمتنان، طلبت الطفلة من والديها الاحتفاظ بالكلب ، لكن أمها سارعت بجذب الطفله بعيدا صارخة فيها أنه لا مكان للكلب في منزلها ولن تتحمل إطعامه وتنظيفه ، وهكذا إبتعدت الأسرة عن الكلب رغم بكاء الطفلة وصراخها .. بعد دقائق قليلة مرت مجموعة من الصبية الذين ما إن شاهدوا شيكو بدون صاحب حتي هجموا عليه وسحبوه بشدة من السلسلة والطوق الذي يحيط برقبته غير مكترثين بنباح الكلب والمة .. شاهد صبري كل ذلك فغادر مخبأه مسرعاً ليخلص شيكو من أيديهم وصاح فيهم مهددا ، فأسرعوا بالهرب بعيداً .. لم يتحمل صبري ما ألم به هو وكلبه من ظلم القدر ، فإعتزم أن يتخلص من حياته وحياة كلبه العزيز في آن واحد ، وقف علي شريط القطار محتضناً شيكو في إنتظار وصوله ، سمع شيكو صافرة القطار القادم وأحس باهتزاز العجلات فوق الشريط ، فإنتفض وتخلص بغريزة حب البقاء من حضن صاحبه الذي يقيد حركته ثم سحبه بقوة من ملابسه بعيداً عن شريط القطار ، وأخذ ينبح مذعوراً بصوت عالي .. وهكذا انقذ شيكو صاحبه من موت محقق .. تخلي صبري عن فكرة الإنتحار ، وقرر أن يواجه الحياة بحلوها ومرها مع كلبه العزيز .. فكر في الإستفادة من معرفته باللغة الفرنسيه ومن ذكاء شيكو وأخذ يدربه علي سماع بعض الكلمات الفرنسية ورد فعل شيكو لها في المقابل ، فمثلاً كان يقول صحن بالفرنسية فيجري شيكو ليلتقط صحناً من حقيبة صبري ويعطيه لصبري بفمه ، لماذا كان يسمي الأشياء والأوامر بالفرنسية ؟ لإن قليلاً من يعرفها من عامة المتفرجين فيحسبونها كلمات سحرية .. وهكذا بدأ صبري يتجول في أحياء القاهرة ومعه صديقه العزيز شيكو جاذبا المارة أطفالاً وكباراً يشاهدون شيكو وهو يلتقط الصحن الطائر بفمه الذي يطلقه صبحي في الهواء ، أو عندما يتعرف بقدمه الأمامية علي ورقة جوكر الكوتشينة من ضمن ثلاث ورقات مقلوبة وغيرها من الألعاب التي تثير الدهشة للمتفرجين المجتمعين في حلقة حول صبحي وصديقه شيكو ، وفي آخر العرض يطلب صبحي من شيكو أن يجمع العطايا ، فيذهب شيكو لحقيبة صبحي ويلتقط طاقية بفمه، ويدور بها داخل الحلقة وهو يسير منتصباً علي رجليه الخلفيتين فقط ، يجمع العملات المعدنية والورقيه وسط تصفيق وإعجاب المشاهدين.. إستمر صبري علي هذا الحال بضع سنوات حتي أصبح معروفاً للأطفال والكبار وتمكن من إستئجار غرفة فوق سطح إحدي العمارات يستتر فيها هو وصديقه شيكو، وأصبح له دخل كافي من العطايا التي يجمعها هو وشيكو ، إلي أن جاء يوم إقتربت منه فتاة في مثل عمره بعد إنتهاء عرضه مع شيكو وقالت له أنها تتابع عرضه مراراً وإنها ترغب في مساعدته في العمل .. سألها عن اسمها وهل يرضي والديها أن تساعده في عمل يشبه الشحاذة في الشوارع ؟ اجابته إسمي بسمة وأنا يتيمة وليس لي أقارب يقبلوني وأعيش منذ سنوات في الشارع مع مجموعة من المتشردين بلا مأوي ، نظر صبري الي بسمة متأملاً حالها الذي يشبه حاله ، وقال لها : لن تقضي ليلتك بعد الآن في الشارع ستشاركيني غرفتي ، ولكن بعد أن تقبليني زوجاً !! قبلت بسمة الزواج من صبري، وشهد الزواج زملائها من أولاد الشوارع ..في صباح اليوم التالي للزواج نظم صبري أغنية يؤديها مع بسمة وشيكو للإعلان عن بدء العرض ، كانت كلمات الأغنية عفوية ، لكنه كان يعزف فيها بالمزمار ودرب شيكو علي النباح مرتين بعد كل مقطع من الأغنية التي تقول :
صبري : إتفرج يا سلام !!
شيكو : هاو هاو !!
بسمة : علي شيكو الهمام !!
شيكو : هاو هاو !!
صبري: يلعب العاب تمام !!
شيكو : هاو هاو !!
بسمة : إتفرج يا سلام !!
شيكو : هاو هاو !!
سارت الحياة بالأسرة الناشئة ، يعيش أفرادها يوماً بيوم، تحسن دخلهم قليلاً عندما طلب بعض سكان العمارة من بسمة تنظيف شققهم ، لكنهم ما زالوا يعيشون تحت خط الفقر …