بقلم: تيماء الجيوش
هي قصة .. « من وحي قصص بيئاتنا الغنية-المتنوعة. مع محبتي وتقديري لكل الرجال اللذين حاربوا العنف و الصورة النمطية للمرأة و عملوا على مستقبلٍ مشرق للمرأة و الرجل معاً.»
أحكمت حزام معطفها ، أخذت ولدها الى حضنها ، ضمته بقوة الى صدرها، اغلقت الباب و مضت . لم تنظر في المرآة و لم تحاول حتى ان تُخفي عينيها بنظارة سوداء ، تلك الكدمة الزرقاء تزداد سوءاً حول عينها اليمنى، تصرف انتباهها عن عينها عامدةً بذات الدرجة التي تصرف بها انتباهاً عن نظرات المارة الفضولية في الشارع ، و كأنهم يبحثون عن جوابٍ عن كدمة زرقاء ما زالت تزداد قتامةً، لم تعُد تُلقي بالاً لأحد، غير ان رجفة عينها المتكررة اللاإرادية و عدم وضوح الرؤية لديها تُذّكرها بمشاجرة الامس معه. تُمعن النظر في خطواتها ، لا بُد ان تُسرع قليلاً . ليل الشتاء طويلٌ و قارس و منزل والديها قريب ، دقائق من المسير وتكون هناك. لشدة الإنهاك الذي نال من جسدها و الالم احست ان الدقائق التي سارتها استمرت عقوداً. لا تدري كم من الوقت بقيت مُلقاة على سريرها. أيقظها ولدها ببكائه . تذكر انه حضر متأخراً كعادته كل مساء، متجاوزاً منتصف الليل، منتشياً مزهواً ، يسير متباهٍ وكأنه قد انهى للتو عرضٍ استثنائي و يودُّ ختامه مسكاً في عرينه. تفاجأ بسؤالها : أين كنت؟ لا يحق لك السؤال اخرسي. تذكر ان صراخهما تعالى و اوامره لها بالصمت تتكرر . ربما صراخها المتعب المتواصل كان يصدر عن كرامتها التي خُنِقت بخياناته معهن ، هي لا تعلم عددهن ، لكنهن
هن يشاركنها به ، يحب نساء العالم قاطبةً ولا يوقفه قيماً او أخلاق، وإن احتاج المال فلا مشكلة لديه ، فله ان يعود اليها و يأخذه عنوةً عنها. هي و مالها و كل ما تملك طوع بنانه ..يأخذ شقاء عمرها، ولا يأبه لإذنها، حين يأتي الامر لضرورات لها لا يتجاوب بل ينعتها بالترف و الجحود. يسخر منها حين تُعيد عليه الطلب بانها بحاجةٍ لمعطفٍ جديد في شتاءٍ جاء اشد من سابقه، وما حاجتك به؟ ليس لديك سوى الذهاب لعملك و زيارة بيت اهلك، ما حاجتك لمعطفٍ جديد؟ تبكي تُعيد طلبها ولا حياة لمن تنادي ، تعلم يقيناً ان مرتبها يذهب لملذاته . تحسُّ بالضعف ، بالوهن ، بضيق الحيلة ، حين توالى صراخها في شجار يوم امس كان عن إهاناتٍ تراكمت، عن هذا كله و عن تعب سنين مضت . هوى بالعصا على جسدها مرات ثم احكم قبضته ووجّهها نحو عينها بضربةٍ موجعة، أحست ان وجهها قد انقسم نصفين، حينها فقدت الوعي و استمر ساعات ، ايقظها ولدها ببكائه ، اما هو فلا تدري الى اين ذهب؟ البيت خالٍ منه. احست بنوعٍ من الفرح لغيابه يجتاحها رغم عنف ألم جسدها وقسوته. تخرج من موجات ما حصل لتجد نفسها امام دار والديها، تقرع الباب لتستقبلها أمها بالقبلات و الحضن ، تأخذ شقيقتها ولدها منها و تتجه نحو صالة الجلوس لتجد ابيها و أشقاءها ، تحاكي نفسها بسؤالٍ لماذا هم جميعاً هنا اليوم أهي الصدف ؟ لا لا يمكن ، إنه هو ، هو من بادر بالاتصال بعائلتها و شكى و تبرّم من ابنتهم التي لا تُرضيه و لا تطيعه. قرر ان يسبقها بالشكوى و يُبعد اللوم و التأنيب عن نفسه ، برأيه أية زوجةٍ جاحدةٍ هي ؟ ألا تعلم ما هي واجباتها؟ الزوجة المرضية لا تقوم بما قامت به . الزوجة المرضية تجد الف سببٍ للصبر ثم الصبر و لدلال و راحة زوجها، أليس من واجبها ان تُنسيه تعبه؟ حقاً هما يعملان ذات عدد الساعات يومياً ، لكنه الرجل .أين هي من هذا كله؟ أين هي من الرضا ؟ على النقيض من ذلك هي تتسائل و تحاسب و تصرخ، أية امرأةٍ عاقةٍ هذه.
تنظر الى ابيها الثمانيني يجلس بهدوءٍ و دعة الى جوار المدفأة ، يتحلق حوله اخوتها جميعاً ، قام اكبرهم من مقعده ليتفحص الكدمة و عينها ، يعلو صوته بحزم لا خوف عليك ، بسيطة ، يبدو ان صهري كان غاضباً بالأمس، يلعن الشيطان و ساعته ، رددها مرات و كأنها ستنهي آلامها ووجعها و ستتبخر بتردادها الكدمات من جسدها . يرتشف الجميع الشاي بهدوء ، بدأت خطوط الزمن القاسي تزحف نحو جباه اخوتها. ملامحهم الجدية تخفي طيبةً و محافظةً و المقولة العظيمة امشي الحيط للحيط. يُخفض احد أشقاؤها صوت التلفاز و يبدأ الحديث الذي طال .
ما زالت عينها تؤلمها و جفنها الأعلى يتحرك بشدة دون مقدرتها على التحكم به ، وكأن ناراً قد أوقِدت في عينها تمنعها من ان تطيل النظر بالأشياء او الأشخاص . لم تنصت بانتباه ، لسببٍ ما لم تبكي و لم تنبس بحرف ، تختلط كلمات و نصائح أشقائها ، اختي الطلاق أبغض الحلال عند الله. اختي الحياة صعبة و راتبك الشهري لن يَسُدّ رمقك انت وولدك، اختي نحن لا يوجد في عائلتنا طلاق ، اختي سيجد زوجك من يتزوجها و انت ستجدي نفسك وحيدة ، مُطلقة، سيزدريكِ الناس ، المجتمع لا يرحم ، اختي تحملي هو أخطأ لكن خطأك أكبر لانك ابتدأت الشجار. هو وعد قطعاً بأنه لن يضربك ثانية. الحياة لا بد ان تمشي. عفا الله عما مضى، افتحي صفحة جديدة، هو وعد انه لن يكرر فعلته مرةً اخرى، اختي عليك بالصبر ، نحن أشقائك رجال ونقول لك ان جميع الرجال لا بد لهم من مساحة مع الاصحاب و انت عليك العناية بطفلك و ستعوضين ما فاتك مستقبلاً، اختي الحرب قاسية ولم تترك أخضراً او يابساً و الناس تغيرت، صدقينا الناس تغيرت . صمتوا جميعاً دفعةً واحدة و كأنه ما لديهم قد نفذ ، كأن خوفهم من عار مجتمعهم زودهم بطاقةٍ نفذت مع مقولة الناس تغيرت. كل هذا و أمها و شقيقتها تجلسان دون حركة او بنت شفة . كأنهما تحولتا الى جزءٍ من جدار بارد. ولدها هدأ و سكن و قد غمره الدفء و أُنس المكان. لا تستطيع ان تأخذ نفساً عميقاً فهذا سيدعو لان يتقلص وجهها قليلاً و يزيد الألم الضعف. ابقت وجهها دون حراك و نظرت نحو ابيها و قالت : أبي عندما كنت طفلة أتيتك كي تشرح لي معنى كلمة «شهاب» أتذكر ابي؟ طلبت مني يومها أن آتيك بالمعجم ، أخبرتني حينذاك انها تعني كتلة من النور و بريقٍ بهي ثم استدرت نحوي و قلت لي «أنت شهابُ نجمة» لاتنسي هذا ، ثقي بنفسك، تعلمي و اعملي و اخرجي و اضيئي ما حولك لأنك تستحقين هذا كله بُنيتي و يزيد، كوني قويةً و أصيلة ، لا تأبهي بنيتي بمن سيلوي طريقك كي لا تجدي الاتجاه الصحيح ، كوني انت. كنت ابي تفخر بذكائي و تفوقي و يكون مدار حديثك لساعات مع الاهل و الاصحاب . كان نجاحي هو نجاح لعائلتي اجمع . انا لم أتغير ابي لا زلت القوية ، لم يفقدني الهوان ثقتي و إيماني بنفسي، و لا زلت سعيدةً بتقديرك لي ابي. اخوتي اشكر نصائحكم لكنها حياتي و كرامتي ، اليوم و انا اسير نظرات فضول الناس كانت تأكلني لكنها لم تخفف من المي الذي يذبح جسدي و عيني ، انا هي من تتألم وليس احد سواي. لا احد سيلومه هو، انا اعلم ان الناس ستلومني ، متى انصف المجتمع المرأة المُطلقة حتى ينصفني؟ من قال ان الناس هم أنبياء ؟ من قال انهم سيعملون المنطق و الحق في أحكامهم؟ من قال انهم لن ينجرفون بأحكام قاسية لا ترحم؟ الاهم هذا المساء انني لن اقبل الإهانة بعد اليوم ، لن أغض الطرف عن الذل بعد اليوم ، أن أكون زوجة و أماً لا يعني ان اجلس و كل مفصلٍ في جسدي يتلوى ألماً. أمومتي لا تعني بمكان ان أكون عاجزة . لدي ما يمكّنني من العمل و الحياة الكريمة . لماذا تعلمت و عملت ؟ لك ابي ان تقبل بي في دارك و لك ان ترفض ، لكم اخوتي ان تساندوني في قراري او تساندوه. لكم الحرية ، اما انا فلن أنسى ما حييت ان من رهنت له اسمي و عمري انهال علي ضرباً و شتماً ، لم يتكلف عناء البحث عن طبيب عند غيابي عن الوعي. لم يبقيه الخوف او القلق على طفله . تركني ملقاةً و خرج يبحث عنكم كي يشرح لكم ما حدث و يكون هو السّباق بالتفاصيل. لن اقبل هذا بعد اليوم . هو زمن و تولى . لي الحق بحياة كريمة بعيدة عن العنف . لي الحق ان أنثر ضياءي . ثم أخذت ولدها و خرجت من منزل اَهلها ، اغلقت الباب خلفها غير نادمة ، خرجت للحياة غير آبهة بكدمتها و شدة ازرقاقها . كانت تحث الخطى في طريقها و تقول «أنا شهاب نجمة».