بقلم: علي عبيد الهاملي
كاتب وإعلامي إماراتي
يحكى أنه في زمن بعيد جدا.. زمن موغل في البعد.. لا نعرف كيف نصف قدمه.. منذ آلاف السنين.. ربما أكثر.. عندما كان عدد البشر قليلا جدا.. أقل بكثير من عدد سكان قرية صغيرة في زمننا هذا.. كان الرجل يخرج كل يوم باحثا عن طعام يعود به كي يقتسمه مع أنثاه. وذات يوم خرج كعادته بحثا عن شئ يصطاده، لكنه عاد إليها حاملا في يده شيئا غريبا لم تقع عليه عيونهما من قبل.. قال لها:
(لم أصطد اليوم لطعامنا شيئا.. حملت لك هذا الكائن الجميل الذي وجدته مختبئا في شقوق صخرة)
كانت هذه أول هدية في تاريخ الهدايا.. وكانت وردة أطلقوا عليها كلمة «الجمال».. وكان كل صباح يبادرها قائلا: «صباح الجمال» ليقترن الجمال بالورد، وتصبح التحية المفضلة لكل من يحس بالجمال بعد ذلك هي «صباح الورد».
ويحكى أيضا أنه لم يكن هناك ما يُعرف بالشِّعر.. لكن الوردة التي اقترنت بالجمال منذ أن عرفها الإنسان أوحت بالشعر.. ومن يومها عرف الإنسان الشعر من الوردة التي ارتبطت بالصباح الذي غدا مناسبة لاستقبال الحياة بمزيد من الأمل والتفاؤل والجمال.
ومثلما خرجت الوردة من الأرض لتتلقى شعاع النور الذي يضفي عليها جمالا ورونقاويفرز ألوانها الجميلة، كانت القلوب تخرج من الأراضي، التي اختارت أن تكون سكنى لها، منجذبة للأنوار الهادئة المسلطة عليها بصبر كبير وأمل أكبر، حتى تصل إلى غايتها وتنال مبتغاها منها.. وأي مبتغى أنبل من غاية ربطت نفسها بالوردة التي سماها الإنسان أول ما عرفها «الجمال» وخلّدها جاعلا منها الأولى في تاريخ الهدايا!
وكما خرجت هذه الحكاية من صندوق الكلام، ظل الإنسان يضيف إليها، ومن خيوط الحكايا أخذ ينسج بردته التي سيلقيها يوما على بطل روايته، حتى إذا ما اكتملت البردة وحان قطاف الورد كان شهريار قد أفرغ كل ما في جعبته من الحكايا وسكت عن الكلام المباح، لتبدأ شهرزاد الإبحار في صندوق الذاكرة، مستخرجة منها أجمل الحكايات، وأروع ما قالت النجمة للقمر، وما حكت الريح للغيمة، وزخاتٍ مما جادت به قريحة المطر.
وكما اقترن تاريخ الوردة بالجمال، وارتبط تاريخ الشعر بالورد، ظلت الوردة ملازمة للشعراء، وظل الشعراء أوفياء للوردة، وكلما خطر لشاعر أن يصف شيئا جميلا برزت الوردة من بين آلاف الأشياء الجميلة لتكون رمزا للجمال الأبدي الذي لا يفنى.
ذات يوم قرر شاعر أن يقطع علاقته بملهمته، ودخل المقهى كي يشرب فنجان قهوة علّه ينساها.. فما اذي حدث؟
دخلت اليوم للمقهى.. وقد صممت أن أنسى علاقتنا..
وأدفن كل أحزاني
وحين طلبت فنجانا من القهوة..
خرجتِ كوردةٍ بيضاءَ
من أعماق فنجاني!!
هكذا كانت الوردة أول هدية في تاريخ الهدايا، وكانت مناسبتها اعتذارا لعدم التوفيق في الصيد.. وكان تأثيرها كبيرا.. فقد نسيا يومها الطعام وانشغلا بتأمل الوردة التي سمياها «الجمال».
لم تكن هناك مناسبات كثيرة لتقديم الهدايا.. لكن الزمن تغير كثيرا.. وأصبح لتقديم الهدايا أكثر من مناسبة.. أما أجمل الهدايا فهي تلك التي تقدم من دون مناسبة.. فلماذا لا تكون الهدايا نفسها مناسبة للاحتفاء والفرح مهما كانت قيمة الهدية؟
أغرب وأجمل الهدايا التي تلقتها إحدى الفتيات من زوجها في فترة الخطوبة كانت زجاجة مغلقة بإحكام وبداخلها ورقة صغيرة وورود مجففة.. ومعها بطاقة تقول:
(في هذه الزجاجة نفثت هواءً من روحي وأعماقي وأحكمت الغطاء جيدا حتى لا يتسرب منها الهواء، فكأنك بامتلاكك لهذه الزجاجة تملكين روحي وحياتي بين يديك، فحافظي عليها جيدا ولا تحاولي معرفة ما هو مكتوب في الورقة التي بداخلها، فإن حاولت وفتحت غطاء الزجاجة انكسرت وتسرب الهواء وتسربت أنا من حياتك إلى الأبد)
تعلق الفتاة قائلة:
( أسعدتني الهدية وأثارت فضولي، وما زلت أحتفظ بها إلى اليوم. الفضول يحرضني على فتحها، لكنني عاهدته ألّا أفعل)
ما زال ثمة مساحة للأمل طالما كان في الدنيا أناس قادرون على الحلم وإهداء وردة تشعرنا بالجمال.. أو شمعة تنير لنا دروب الحياة..كي نغدو مؤهلين لتعلم مهارة الصبر عندما تقذف بنا الأقدار إلى شواطئ يضنينا السير فوق رمالها.. وكي نصبح قادرين على الإحساس بمتعة الانتظار.