بقلم : نعمة الله رياض
أنتم الذين تتطلعون الآن علي رسالتي ، ما تزالون أحياء ، لكن أنا الذي كتبتها أكون منذ وقت ليس بالقليل ، قد رحلت إلي قاع الظلال القاتمة ..
كنا خمسة أصدقاء ، بالإضافة إلي زوجات أربعة منا ، فقد كان من بينهم صديقي المقرب لم يتزوج بعد ، وكنا نحرص علي الإجتماع داخل القصر الفخم الذي أملكه في ضاحية المدينة كل عطلة أسبوعية ، نجلس متجاورين حول بضعة زجاجات النبيذ الأحمر المعتق ، وأواني المقبلات والمشهيات وعلي رأسها قطع جبن الأمنتال السويسرية ، وأطباق الطعام التي يستبدلها الخدم كلما فرغت ، وعلي الضوء الخافت للمصابيح المعلقة علي الحوائط التي كانت تضئ إنهماكنا المفرط في إحتساء الشراب وتناول الطعام ..
وبمرور بعض الوقت ، تنسحب زوجاتنا إلي غرفة جانبية لممارسة هواية النساء في الدردشة وإلقاء النكات وذكر آخر أخبار الموضة وما يستجد من فضائح مجتمع الصفوة ، وغيرها من الأخبار المثيرة، يطلقن خلالها ضحكات مرحة أو مكتومة وأحياناً صاخبة أو هيستيرية ، وكانت زوجتي أكثرهن جمالاً وجاذبية بلا منازع ، بينما كنت مع أصدقائي ننتقل إلي مائدة مستديرة ، لنسلي أنفسنا بلعب الكوتشينة ، لم نكن نتراهن في البداية بل كنا نكافئ الفائز بالتصفيق له وتبادل الأنخاب في صحته وعلي إسمه ، ولكن بمرور الجلسات الأسبوعية ، وجدنا أن إضفاء جو من الإثارة والتحدي يستلزم المراهنة بمبالغ رمزية علي الأقل تكون من حق الفائز .. ومع إحتدام المنافسة والمضاربة ، أخذت مبالغ الرهان تزداد وتتضخم ، ولم لا ، فقد كنا جميعاً من رجال الأعمال المرموقين ذوى الثروات الطائلة والغني الفاحش..
وفي إحدي الأمسيات الأسبوعية ، بدأنا اللعب بتوزيع أوراق الكوتشينة ، وفي قلب كل منا حماس للفوز ، إقترح صديقي المقرب الرهان بكل ما في جيوبنا من نقود !! وكنا قد إحتسينا ما يكفي من النبيذ لإتخاذ قراراً متهوراً كهذا بالموافقة ، وكنا منجذبين لمسايرة إقتراح صديقي المقرب ، وهكذا بدأنا جولة اللعب ، كنت أحسب أن الحظ بجانبي ، لكنني خسرت كما كانت الخسارة من نصيب باقي أصدقائي عدا صديقي المقرب الذي فاز وجمع النقود بكلتا يديه وذراعيه من فوق المائدة وهو يضحك في غرور ضحكة النصر .. نظرت إليه وعلمت إنني لم أوفه حق قدره في إتقانه اللعب ، ولكني تعلقت بأهداب حظي وعاندت نفسي ، فعندما تأهب صديقي المقرب لمغادرة المائدة المستديرة بعد أن إنسحب باقي الأصدقاء من اللعب ، طلبت منه الجلوس ومواصلة اللعب معي لثقتي بأني سأربح الجولة الثانية .. سألني صديقي المقرب مشفقاً :- علي ماذا ستراهن هذه المرة ؟ أجبته :- علي هذا القصر الذي نتواجد فيه !! فقد كنت أقيم أنا وزوجتي في قصر آخر .. ساد الصمت المكان وتسمرت الأنظار علي وجه صديقي المقرب ، وهرعت الزوجات ليشاهدن ماذا يحدث وهن في قمة الإثارة .. نظر صديقي إلي النساء المشدوهات مختالاً وهو في قمة النشوة، ثم رمقني وومضت عيناه وقال لي:-هيا يا صديقي نخوض معاً جولة أخري ممتعة !! كانت الخسارة من نصيبي للمرة الثانية ، وأحس الجميع أني سقطت في دوامة الفشل ، عندئذ صرخت فيه :- لن نغادر هذه المائدة حتي نلعب جولة أخيرة ، وسأراهن معك علي قصري الآخر الذي أقيم فيه ، وإذا كسبت الرهان، ساسترد منك كل ما خسرته .. وافق صديقي المقرب ، ولم يحالفني الحظ للمرة الثالثه وسط ذهول الحاضرين !! وكرجل يحترم كلمته حررت له عقداً بالتنازل عن القصرين الذين أملكهما .. أمسك صديقي المقرب العقد بلهفة وأخفاه بسرعة في جيب سترته ، ثم طلب مني الحديث علي إنفراد في غرفة مجاورة .. قال لي وعلي وجهه أسي مصطنع :- لم أكن أتوقع خسارتك هذه يا صديقي العزيز، لكني اقدم لك عرضاً أرجو أن تتفهمه ، وإذا قبلته ستسترد القصرين بالإضافة إلي خاتم ثمين من الماس هدية لزوجتك الحسناء .. سألته عما يقصد ، أجاب بصوت خافت :- أن أقضي ليلة واحدة فقط مع زوجتك !! ، وأرجوك لا تتعجل في الرد ، فأنت صديق مقرب أحترمه ، كان يمكنني إغوائها دون أن تعلم ، ولكني وضعت صداقتنا الطويلة فوق كل إعتبار ، ولنبقي هذا الأمر سراً بيننا سواء وافقت أم لم توافق .. نظرت إليه بتمعن وشعرت بالإهانة .. لقد تحملت خسارة قصرين فاز بهما ولم أحزن ، فقد كان هذا قراري باللعب ، ولكن حين وصل به الأمر إلي التفكير في خدش شرفي ، أقسمت أن أنتقم .. لم أوجه له كلمة تهديدٍ واحدة أو أقدم له سبباً يجعله يرتاب في حسن نيتي، بل سارعت بالإبتسام في وجهه، وهو لا يتصور أن ابتسامتي هذه ، لم تكن إلا ابتسامة التفكير في القضاء عليه ، وهكذا وعدته بالرد علي عرضه خلال يومين علي الأكثر لإقناع زوجتي .. كان صديقي المقرب رجل أعمال ناجح ، وقد كان يفخر كذلك بأنه خبير ذواقه في مختلف أنواع الجبن المعتقة ، وكان في ذلك صادقاً ومشورته محل ثقة ، فقررت أن أنفذ إنتقامي في سرداب قصري الذي أعتق فيه عدد من أنواع الجبن الفاخرة علي سبيل التجارة فيها ، وكنت قد أعددت العدة للتخلص منه بخطة محكمة ، وفي اليوم التالي لهذه الأمسية ، قابلت صديقي بالقرب من منزله ، ولم يكن ذلك صدفة ، بل أنا الذي سعيت إليها ، وقد حياني ورحب بي بحرارة بالغة ، وبالطبع أعلم سبب ذلك !!.. قلت له :- هل عندك وقت أيها الصديق العزيز لإعطائي مشورة ؟ أجاب:- عن أي شي تقصد؟ قلت له :- لقد استوردت لأول مرة منذ بضعة اسابيع ، أقراص جبنة إيطالية الصنع ونوعها باراميجيانو- ريجيانو وقد خزنتها في سرداب قصري لتعتيقها ، هل عندك وقت لفحصها وتذوقها ؟ لإني دفعت فيها مبلغاً ضخماً وأخاف ألا تكون أصلية المنشأ ، وقد أردت أن أحسم شكّي باليقين ، فلجأت إليك لإني أعلم أنك ذواقه محترف ، أجابني ضاحكاً وقد إنتفخت أوداجه : يسرني ذلك يا صديقي العزيز ،أنا أعرف هذا النوع ، وبالرغم من إنشغالي ببضعة مقابلات عمل اليوم ، إلا إني سأؤجلها لتلبية طلبك ، هيا بنا نذهب لمنزلك ، مشيت معه مسروراً ، وما كنت أحسب أني سأتمكن من دعوته لمنزلي بهذه السهولة .. كان للسرداب باب يفتح من خارج القصر لإدخال وإخراج البضائع ، وباب سري من داخل القصر له غطاء حديدي مغلق بقفل وتغطيه عدد من البلاطات سهلة الخلع للتموية وبنفس شكل باقي بلاطات الأرضية ، ويغطي ذلك كله سجادة فاخرة ، ولم يكن في القصر أحد من الخدم فقد أمرتهم أن يغادروا القصر لمدة ستة أيام ، عدا حارس القصر الذي يشغل غرفة خارجه . إجتهدت أن أدخل القصر مع صديقي بدون أن يرانا الحارس ، ودلفنا حيث توجد فوهه السرداب ، أزلنا البلاطات وحررت القفل من الغطاء الحديدي ونزلنا سلماً طويلاً ملتويا ووصلنا في آخره إلي رواق طويل يتفرع منه حجرات بها أرفف موضوع عليها أقراص الجبن ، كان في كل حجرة نوع من الجبن منها الأمنتال والشيدر والروكفور والغرغنزولا والايدام فلمنك وغيرها .. كان السرداب فسيحاً ورطباً جداً، وبدأ صديقي يسعل وقال لي: أعذرني فعندي حساسية من الأماكن الرطبة ، قلت له هيا بنا نعود فلا ينبغي أن أتسبب في معاناتك وتدهور صحتك .. لكنه أصر علي إكمال المهمة فقدمت له ذراعي فمال عليها بتثاقل والتفت نحوي بعينين منطفئتين ، ومشينا مسافة طويلة داخل السرداب ، وفجأة إنقطعت الكهرباء وإنطفأت المصابيح المثبتة علي الجدران ، فأخرجت كشافين إضاءة .. سألني صديقي وهو يسعل: أين هي أقراص الباراميجيانو -ريجيانو ؟ أجبته: لقد إقتربنا ، إنها علي بعد خطوات ، تقدم قليلاً إلي الأمام متعثر الخطي ، فإستدرت نحوه بسرعة وأخرجت من ملابسي زجاجه رذاذ مخدر وأفرغتها علي وجهه .. نظر إلي مصدوماً وومضت عيناه بضياء موحش ووقع علي الأرض ، فتشت ملابسه وعثرت علي عقد التنازل عن القصرين ، ثم كبلته بالسلاسل والأقفال ، وسحبته إلي ركن قصي وراء أرفف مكتظة بأقراص الجبن وإنتظرت ريثما إسترد وعيه وقلت له: – سأتركك هنا لتحلم بزوجتي يا صديقي ، ثم أخرجت من ملابسي زجاجة صغيرة بها سم زعاف وأفرغت ما فيها عنوة في حلقه ، راقبت تقلصات وجهه وقلت له : فلترقد بسلام .. سمعت منه صرخة أنين خافتة ، وخيم بعد ذلك صمت عصي ..
هناك لحظة فارقة بين زخم الحياة وصمت الموت ، إنها لحظة رهيبة تقع بين دقات القلب المتباطئة وإستسلام القلب وخموده، تذبل بعدها كل مظاهر الحياة وتؤول إلي أفول ..
هرعت علي الفور إلي الغطاء الحديدي للسرداب لإكتشف ما لم يكن في الحسبان ، فقد وجدته مغلقاً بالقفل ، جن جنوني وطرقت علي الغطاء بكلتا يدي وأنا أصرخ ولا مجيب ، خمنت أن الحارس الملعون كان يطمئن علي القصر كما تعود ، أو كان يحضر شيئاًمن المطبخ ليأكله ، وإكتشف عند مغادرته أن غطاء السرداب مفتوح ، وربما نادي علي أحد قد يكون بالداخل قبل أن يغلقه بالقفل .. ويغلق أي أمل لي في الحياة .. بكشاف الإضاءة ونوره الذي يخفت ، بحثت بلا جدوي عن زجاجة ماء لأروي بها عطشي ، أدركت أني سأموت لا محالة لإني لن أصمد لأسبوع واحد بدون ماء ، وهكذا كتبت رسالتي هذه لأعترف فيها عما إقترفته في حق صديقي .. صديقي المقرب !!