بقلم: مينا بشير
كل شَيءٍ هنا يَضِجُّ بصَمتٍ مُخيف، و البُرودُ يُغَلِّفُ الوجوه كأنهُ قِصديرٌ عازِلٌ للشُعور. في كل مرّةٍ أقصِدُ فيها مَقهى (تيم هورتنز) الكنَدي الشَهير، أسمعُ الضَوضاءَ تتَدَفَّقُ إلى أذُنيَّ من كل حَدبٍ و صَوب، لكنها مُجرَّدُ أصواتٍ سَطحيةٍ لا يتَسَرَّبُ أي شَيءٍ منها إلى القُلوبِ أو الأرواحِ العَطشى إلى الموسيقى. فالقُلوبُ في ذلك المَقهى خاويةٌ تمامًا، خاليةٌ من الثَرثَرةِ و الضَوضاء. هناك على تلك الطاولاتِ المُتَفَرِّقة، يَتَجاذَبُ الناسُ أطرافَ الحديثِ، ليس لأنهُم مُقَرَّبونَ أو ما شابه، و لا لأنهُم يَسعَونَ إلى التَقَرُّبِ من بعضِهم البعض أو الغَوصِ و التَعَمُّقِ في شَخصياتِ من يجلسُ أمامهم، بل لأنهم يُريدونَ أن يتَحَدَّثوا، يُريدونَ أن يُثَرثِروا و حَسب. الناسُ هنا يُحِبّونَ أن يكونوا محَطِّ الانتِباهِ أحيانًا، يبحَثونَ دائمًا عن مَن يُنصِتُ إلى أحاديثِهم العَميقةِ و تَجاربِهم الكثيرة. أفواهُهم جائِعةٌ إلى الثَرثَرة، و الكثيرُ منهم يَفتَقِرُ إلى الاهتِمام، يبحَثُ باستمرارٍ عن مكانٍ لاستِعراضِ عَضَلاتِ الكاريزما المَفتولة و وَسائلِ النِقاشِ و الإقناعِ لديه. لكن للأسَف، أصبحَ الاهتمامُ في هذا البلَدِ عُملةً مُرتَفِعةً جدًا، و تحوَّلَ مع مُرورِ الأيامِ و السَنَواتِ إلى عُملةٍ صعبة، إلى عُملةٍ نادِرة.
كل الأحاديثِ هنا تَبدو مُسَطَّحةً جدًا كقُشورِ اللَيمونِ المُرّةِ التي تُخفي خَلفَها طعمًا حامِضًا. غالِبًا ما يتَحَدَّثُ الرِجالُ العربُ هنا عن السياسةِ و الحُروبِ في بلادِهم، و يَخوضونَ في نِقاشاتٍ شبه عَقيمةٍ في قَضايا سياسيةً لم يتمَكَّن من تَحليلِها حتى أبرَعُ المُحَلِّلين السياسيين، لكنهم مع ذلكَ يستَمِرّونَ في مُناقَشَتِها لقَتلِ الوقت، أو رُبَّما لقَتلِ الصَمت الذي يَمتَطي صهوةَ الوقت. إذ أن كل أحاديثِهم التي تَبدو شَيِّقةً للعَيانِ ما هي إلا مُؤامَرةٌ مُشترَكةٌ ما بينهم لاغتيالِ ذلك الوجومِ الذي يَتَخَلَّلُ حياتَهم. فعلى الأغلَبِ أن حياةَ أولئكَ الرجال يَسودُها العملُ و الروتين، بل إن حياتهم تَكادُ تَختَنِقُ بنيكوتينِ الضُغوطات. فلا يَجِدونَ أمامَهُم حلاً سوى التحَدُّثِ عن القَضايا السياسية و كُرةِ القدَم. و ما يُثيرُ اهتمامي دومًا هو تَعالي أصواتِ أولئكَ الرِجال عند الحديثِ عن أي موضوعٍ سياسي، مما يَدفَعُني دائمًا إلى التَساؤل: لو كانَت السياسةُ امرأة، ترى هل ستَكونُ بهذه الحِدّةِ و الشَراسة؟ هل ستَكونُ بقوةِ أصواتِهم الصادِحة؟ ربَّما… لكنَّ ما أنا مُتأكِّدةٌ منه هو أنها ستَكونُ أنثى مُثيرةً للجَدَل، أشبه بعاهِرةٍ ترتَدي الحِجاب، أو مُتَدَيِّنةٍ تشربُ النبيذَ قبل كل وجبةٍ نخبَ الرَب. تلك هي السياسة، حبلٌ طويلٌ من التَناقُضات. إنها مُجَرَّدُ فكرةٍ تسبَحُ في الرأس، لكنها قادِرةٌ على تَفريقِ الرِجالِ كأنهُم قطيعٌ من الغنَم، تمامًا كعَصا موسى. يُدافِعُ كل رجُلٍ عن رأيهِ بكل اندِفاعٍ و بشيءٍ من الوَحشية كأنهُ يُدافِعُ عن شرَفهِ أو يتَكَلَّمُ عن مسألةٍ شَخصية. لا أعلَمُ لماذا تنتَشِرُ بين العرَبِ شَخصَنةُ السياسةِ إلى هذه الدرَجة، و لماذا يسعى الرِجالُ إلى الفوزِ في المُناظَراتِ السياسيةِ المُصغَّرة؟ ربَّما لأنهُم لا يَملِكونَ ما يكفي منَ الانتِصاراتِ في أرصِدَتِهم، فراحوا يبحَثونَ عن انتِصارٍ مُصَغَّرٍ على طاولةِ المقهى ليَسُدّوا به جوعَهُم. و على ذِكرِ الأرصِدةِ الخالية، دائمًا ما يَحوزُ الاقتِصادُ نَصيبًا لا بأسَ بهِ من أحاديثِ الرِجالِ و النساءِ هنا. إذ تَقِفُ الشَكوى من غَلاءِ الأسعار على طارِفِ ألسِنةِ الناسِ كالعِلكة، يَلوكونَها كلما سنَحَت لهم الفُرصة. يُشَكِّلُ الوضعُ الاقتِصاديُّ و التَضَخُّمُ هاجِسًا لدى الكثيرِ من المُهاجِرين، و خُصوصًا أولئِكَ الذينَ هرَبوا إلى كندا ظانّينَ أنهم سيَحظَونَ بحياةٍ مِثالية. ثم جاءَ ذلك الاقتِصادُ اللَعين ليَصفَعَهم بقوةٍ كالخَيبة. أشعرُ أن الجميعَ هنا يَحمِلُ همًّا واحِدًا مُشتَرَكًا، همَّ المُستقبَل. إذ أنني عندما أختَلِسُ النظرَ إلى أي شخصٍ جالسٍ في ذلك المَقهى الذي أرتادهُ بشكلٍ شبه يومي، سواءً أكانَ ذلك الشخصُ رجُلاً شابًّا أو كبيرَ السِن أو امرأةً أو فتاةً شابّة، أقرأُ في مَلامِحِهم ذلك التَساؤُلَ المَشوبَ بالقلَق، أتَمَعَّنُ في وُجوهِهم المُمتَقِعةُ و المُلَطَّخةُ ببُقَعِ المُستقبَلِ رَماديةِ اللَون، كأنَّ كل واحدٍ منهم يَضَعُ فوقَ رأسهِ مِضلّةً شَفّافةً غير مَرئية تَحَسُّبًا للغَدِ الماطرِ بالأقدار. و هذا الوجَلُ من الحياة و المُستقبَلِ هو السببُ الأساسيُّ وراءَ اعتِزالِ الناسِ لبعضهم البعض. فكل امرِئٍ في بلادِ الغُربةِ مشغولٌ بنفسه تمامًا و لا يملِكُ في رأسهِ الصغيرِ مساحةً للآخرين.
هذه هي الإجابةُ على كل أسئِلَتي المُلِحّةِ الطَنّانة. إن الغُربةَ تَبني لنا دِرعًا رقيقًا ضدَّ الاحتياجِ إلى الآخرين، فالمُغتَرِبُ يُضطَرُّ بطبيعة الحال إلى الاعتِمادِ على نفسهِ بشكلٍ شبه كُلّي عندما تَجُرّهُ قَبضةُ القَدَرِ فجأةً إلى حيث الغُربة. إن الاغتِرابَ يُعَلِّمُنا فنَّ الوِحدة فنُتقِنهُ باحتِراف، نتعَلَّمُ كيفَ نكتَفي بأنفُسِنا و نَستَغني عن الناس قدرَ المُستَطاع. نُصبِحُ فجأةً لُقمةً سائِغةً للقَوقعةِ التي تَبتَلِعُنا ببُرود، فنجلِسُ في بُطونِها المُتَفَرِّقة غارِقينَ في ظُلُماتِ الوحدةِ المُريحة، و نُسَبِّحُ بحَمدِ الكبرياء.
الحقيقةُ هي أن الغُربةَ تجعلُ منَ العَلاقاتِ مُجرَّدَ كَمالياتٍ لا أكثر، إذ يُصارِعُ معشَرُ العربِ الكنَديين للعَيشِ بمُفرَدِهم و إثباتِ أنفُسِهم تحت ظِلالِ القلق. دَواخِلُهم مُختلفةٌ تمامًا عمّا يَبدونَ عليه من الخارج، فهُم دائمًا يُحاوِلونَ أن يُبَيِّنوا لبَعضِهم أنهم ليسوا بحاجةٍ إلى الحُب، لكنُّهم في الحقيقةِ أشَدُّ حاجةً إليهِ من حاجَتهم إلى الخُبز، كما قالت الأم تريزا. من واقعِ تَحليلي لوجوهِ العربِ هنا، العربِ المُنزَوينَ في هذا الرُكنِ بعيد، حيثُ يتَراكَمُ الجَليدُ في ثَنايا أرواحِهم أكثرَ من تَساقُطهِ في شوارِعِ كندا، أدرَكتُ أن كل واحدٍ منهم يتَضوَّرُ جوعًا إلى طبقٍ منَ الأحاديثِ الدَسِمة الشَيقة، أحاديثَ تحمِلُ بين سُطورِها العَفَويةَ و التِلقائية التي كادَت أن تَنقَرِض، تلك الأحاديثُ الخاليةُ مِن حَواجزِ الرَسميات. و لا أنكِر، أنا بحاجةٍ إلى ذلك أيضًا، لكنني أستطيعُ القولَ أنني قد اعتَدتُ على استِمدادِ الحُبِّ منَ الأشياءِ لا منَ الأشخاص. و رغمَ احتياجِنا المُشترَكِ للتَعاطُفِ و الحُب، إلا أن كل واحدٍ منا يُفَضِّلُ أن يُعاني بمُفرَدِه، في عالَمهِ الخاص. تحن نُعاني من نفسِ الداء، لكننا لا نبحَثُ عن الدواءِ عند بعضِنا البعض. في نظَري، الغُربةُ هي قِمّةُ التَناقُض.