بقلم: علي عبيد الهاملي
كاتب وإعلامي إماراتي
اقتنص فيلم «أوبنهايمر» سبع جوائز من أصل 13 ترشيحا، وذلك خلال حفل توزيع جوائز أوسكار 2024 الذي أقيم على مسرح «دولبي» في مدينة لوس أنجليس الأمريكية شهر مارس الماضي، وهو الحفل الذي ينتظره جميع المهتمين بصناعة السينما وعشاقها، حيث تجتمع هوليود للاحتفال بأفضل الأعمال والعروض. فقد فاز الفيلم بجوائز أفضل فيلم، وأفضل مخرج، وأفضل ممثل، وأفضل ممثل مساعد، وأفضل مونتاج، وأفضل تصوير سينمائي، وأفضل موسيقى تصويرية.
يروي الفيلم، الذي تم عرضه في دور السينما منتصف عام 2023م، حياة عالم الفيزياء النظرية الأمريكي روبرت أوبنهايمر، مدير «منشأة لوس ألاموس» ضمن «مشروع مانهاتن» خلال الحرب العالمية الثانية، التي كانت مهمة العاملين فيها تطوير أول أسلحة نووية في العالم، ولهذا أُطلِق على أوبنهايمر لقب «أبو القنبلة الذرية».
«سيادة الرئيس.. أشعر أن يديّ ملطختان بالدماء». هذا هو ما قاله أوبنهايمر للرئيس الأمريكي هاري ترومان، بعد إلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما ونجازاكي، وهما القنبلتان اللتان أسهم أوبنهايمر في صناعتهما، وكانتا أول وآخر قنبلتين ذريتين تستخدمان في الحروب، لكن الرئيس الأمريكي استشاط غضباً، وأجابه بأنه الوحيد الذي يتحمل مسؤولية اتخاذ قرار استخدام الأسلحة النووية ضد اليابان، وقال لاحقاً: «لا أريد أن أرى ذلك اللعين أبداً في هذا المكتب مرة أخرى». ومع هذا، وتكريماً لخدماته، تم منح أوبنهايمر ميدالية الاستحقاق من الرئيس ترومان عام 1946م.
ربما كانت هذه التناقضات في حياة روبرت أوبنهايمر، بالإضافة إلى العوامل الفنية الإنتاجية، هي التي أعطت الفيلم زخماً جعل منه واحداً من أفضل عشرة أفلام لعام 2023م، وفقاً للمجلس الوطني للمراجعة ومعهد الفيلم الأمريكي، بالإضافة إلى الإيرادات التي حققها، والتي جاوزت 900 مليون دولار، في حين بلغت ميزانية إنتاجه 100 مليون دولار.
الأهم من هذا كله هو الجدل الذي أثاره الفيلم حول جدوى التسلح النووي، وإعادة طرح السؤال حول مدى إمكانية تحقيق «التوازن النووي» الذي يحول دون حدوث حرب عالمية جديدة يكون سلاحها ترسانة الأسلحة النووية التي تمتلكها الدول الكبرى، والضمانات التي يمكن أن يقدمها هذا التوازن في ظل الأوضاع القائمة حالياً، والتي ما زالت تكتنفها أطماع الدول الكبرى، وسعيها إلى ابتلاع الدول الأصغر منها، لفرض الهيمنة، أو الوصول إلى المياه الدافئة، أو أي سباب أخرى تراها هذه الدول مبررات مقبولة للتهديد بالسلاح النووي، والتلويح باستخدامه.
لقد شاهدنا خلال الفيلم الصراعات البشرية والسياسية التي رافقت المشروع النووي الذي أدى إلى إنتاج أول قنبلتين ذريتين في النصف الأول من القرن العشرين، وهي صراعات ليست محكومة بزمن معين، بل لعلها أكثر حضوراً في زمننا الحالي منها في ذلك الزمن، حيث غدت الصراعات أكثر حدة، والمطامع أكثر اتساعاً، والأيديولوجيات أكثر سيطرةً على قرارات الدول، وأصبح الحصول على أسلحةٍ كيماويةٍ ونوويةٍ هدفاً ليس للدول الكبرى فقط، وإنما للدول الصغيرة أيضا، بل للجماعات والمنظمات الإرهابية التي أصبحت تسبب صداعاً مزمناً لجميع الدول، بغض النظر عن حجمها، بل لعل الدول الكبرى تعاني من هذا الصداع أكثر، كون هذه الجماعات والمنظمات، التي تبدو صغيرةً، تحرج الدول الكبيرة وتضعها أمام خياراتٍ تبدو أنها مجبرةٌ عليها، وفي أوقاتٍ غير مناسبةٍ لها، أو غير راغبةٍ هي فيها.
أيّاً كان الأمر، فإن فوز فيلم تدور حكايته حول موضوع يحمل طابعاً سياسياً عسكرياً علمياً ليس له جانبٌ عاطفي بأهم جائزةٍ سينمائيةٍ عالميةٍ، هي جائزة الأوسكار، بغض النظر عن الإمكانات الفنية لطاقم التمثيل والإخراج والإنتاج، يفتح العيون على أن ثمة تغييراً يحدث في عالم الفن، مثلما هو حادثٌ في كل المجالات، ليس بفضل التقدم الحاصل في كل النواحي، وإنما بفضل النضج الذي وصل إليه فكر العقلاء من البشر، والإحساس بأننا سائرون نحو نهاية غير سعيدةٍ للبشرية إذا بقيت الصراعات قائمةً بين الدول، وإذا بقيت قرارات إشعال الحروب وتغذيتها بيد فئة من الناس لا تفكر إلا في مصالحها الشخصية وأمجادها الزائلة، وفي طموحاتها المدمرة للبشرية.
لتكن «عقدة أوبنهايمر» إذن هي عنوان المرحلة المقبلة، في الفن والسياسة، وفي كل شؤون الحياة الأخرى.