بقلم: محمد منسي قنديل
سوف يندهش الذين يعيشون في كندا من كلمة الرقابة، وكيف أنها مازالت موجودة بل وتمسك بخناقنا نحن العرب، وكما كان يوسف ادريس بقول أن حجم الحرية في الدول العربية لا تكفي لكاتب واحد فما بالك بالبقية، وفي هذه الايام عادت مشكلة الرقابة لتلقي ظلالها علينا من جديد، ادركنا فجأة انها موجودة ومتحكمة، وأن هناك أكثر من جهة تمارسها، كلها تمنع وتحجر وتصادر، البعض منها له اسبابه الظاهرة والمنطقية والبعض الآخر لا يحتاج لأسباب، ربما خفت الرقابة عن الكتاب قليلا، ولكنها قوية الوطأة في بقية مجالات المصنفات الفنية، وبشكل عام لا يوجد من يحب الرقابة، بما في ذلك الذين يؤيدون وجودها، فالبعض أنه في المجتمعات التي لم تنضج بعد، لابد من وجودها، ليس فقط للمحافظة على اخلاقيات المجتمع وقيمه، ولكن كستار يختبئ الجميع خلفه ليؤكدوا حسن نواياهم ونقاء سريرتهم، فالرقابة موجوده منذ القدم، جزء من السلطة الحاكمة، سلطة الخليفة وسلطة الكنيسة وسلة الهيئات الدينية المتزمتة، وكان صراع المفكرون طوال هذه العصور هو محاولة للتملص من هذه السلطة، اعطاء أجنحة طليقة للأفكار والنزوات والخيالات والرغبات مهما كان نوعها حتى تصل إلى آخر سماء ممكنة، فالرقابة لا تمارس سطوتها إلا على كائنات ضعيفة، الكتاب وشرائط السلولويد، الكتاب الذي ليس إلا حبرا على ورق، سهل التمزق، سريع الاشتعال، من السهل ومحاصرته، وشرائط الأفلام التي تحولت لاسطوانات هشة، وهي مجرد ضوء وظلال وأخيلة تحمل أفكارا، تحمل المتعة لنا ولكنها تخيف كثيرا من الأجهزة الرسمية، ولكن العديد من الانظمة العربية العتيدة مازالت مصابة بعقدة “الكتابو فوبيا” و”الفيلم فوبيا”، تخاف الكتاب والفيلم و تتحسب لصدورهما، وفي أحيان كثيرة لا تتركهما يعبران الحدود،وتاريخيا كانت هناك الكثير من المحارق التي اقيمت للكتب، لم نسمع عن اقامة محارق للأسلحة الفتاكة، او المخدرات المدمرة.
في أحد المعارض الكتب التي تقام للكتاب، في دولة تتباهى بديمقراطيتها، وبريادتها للمنطقة التي تحيط بها، كنت متحدثا في أحدى الندوات، وفوجئت أن هناك قائمة سرية وطويلة تحتوي على مئات الكتب من كل الاصناف،كلها ممنوعة من العرض، من بينها ثلاثة كتب لي، وكان غريبا ان يصادروا كلماتي المكتوبة وأن يتركوا المجال لكلماتي الشفهية، ازدواجية لا يبررها غير ميراث طويل من كراهية الكلمة المطبوعة، ففي القرون الوسطى كانت الكنيسة تعادي المطبعة، وظلت الدولة العثمانية لعشرات السنين تمنع دخول المطبعة لأراضيها وتكتفي بالمخطوطات، وجاءت الحملة الفرنسية على مصر لتكسر هذا الحظر، وتجعل مصر أول دولة في المنطقة تعرف هذا الأختراع، ولكن الرقيب يكون أحيانا أقوى من المطبعة، فرغم ثورة 25 يناير لا زالت الأجهزة تقوم بمصادرة كتبا تعتبر من كلاسيكيات النثر العرب، كتاب “النبي” لجبران خليل جبران الذي صدر منذ 90 عاما وطبع عشرات الطبعات، قبل أن يستيقظ الرقيب المصري من سباته ليكتشف خطورته ويقيم الحجر عليه، ويكرر المهزلة نفسها مع كتاب “ألف ليلة وليلة” في عناد غريب يعادي فيها رقيب عابر نصا خالدا قاوم قرون الزمن. لازال الكتاب متهما، يجب إيقافه ومحاكمته واعدامه. وأنياب الرقابة غائصة في عمق التاريخ، وحرائق الكتب لا تخمد، في رواية 451 فهرنهيت يقدم المؤلف الأمريكي “برادبيري” رؤيا كابوسية لمصير الكتاب في المستقبل، تحت وطأة الأنظمة المتسلطة، تحكي الرواية عن مطافئ مهمتها حرق الكتب، و451 هي درجة الحرارة التي يحترق عندها الورق، وامتلاك أي كتاب مهما كان نوعه يعد جريمة يعاقب عليها القانون، ويضطر هواة الكتب لحفظها عن ظهر قلب، والهروب إلى الجبال ليردودها لبعضهم البعض، حكام الاندلس اقاموا المحارق لمخطوطات ابن رشد، وهتلر قام بإحراق كتب اللبراليين والديمقراطيين الذين لا يؤيدون نظريته في تفوق الجنس الآري، والقذافي احرق كل أنواع الكتب دون تميز. جميعهم استقوا طقوس الحرق من الحضارة الرومانية القديمة كما يقول المؤرخ الإيطالي ماريو إنفليزي، الواقعة الاولى في التاريخ حدثت في عهد الامبراطور تيباريوس عندما وجهت تهمة المروق والخروج عن الدولة للمواطن كريموسيوس كوردو، كان قد نشر كتابا ينتقد فيه ضياع قيم وفضائل الجمهورية الرومانية مع مصرع يوليوس قيصر، الذي كان يعتبره آخر المواطنين الرومانيين الحقيقيين، بعدها سقطت كل القيم ولم يعد هناك رجال، وتمت محاكمة الكاتب أمام مجلس الشيوخ، وذهب دفاعه عن حرية الراي سدى، فقد اصر الشيوخ المبجلين على أحراق مؤلفاته في ميدان روما، من هذه اللحظة التاريخية أكتسب صفة “المعارض” وأصبح عدوا رسميا لكل قوى القمع والتخلف.
ولكن مشكلة الرقابة الآن مع السينما ومع اكثر من فيلم، ثلاثة افلام تعرضت للمصادرة مؤخرا مع اختلاف الاسباب، لم يقم جهاز بالرفض ولكنه أكتفى بمتابعة معارك المصادرة بعيدا عنه، الفيلم الاول كان “حلاوة روح”، فيلم متواضع المستوى فنيا وفكريا، ومنقول عن فيلم ايطالي شهير، إلا ان وجود أحدى نجمات الاثارة فيه وما قيل انه مليئ بالإيحاءات الجنسية، خاصة وان بالطرف الآخر هو صبي لم يبلغ بعد، أثار ضجة مبالغ فيها، الأمر الذي جعل رئيس الوزراء المصري يتحسس مسدسه ويطلق طلقة المصادرة، والفيلم الثاني هو “نوح”، قصة توارتية عن نبي الله نوح، وقد سارع الأزهر بالرفض، بغض النظر عن الفيلم ومستواه الفني، والحجة أنه الأزهر يرفض مبدأ تجسيد الأنبياء على الشاشة، ودخل وزير الثقافة في نقاش وجدل مع اللجنة التي قامت بالمنع لأن الفيلم لا يسيئ لنبي الله نوح، ولا يقدم نقدا لأي دين من الأديان، وقد سبق أن عرضت افلام عن معاناة السيد المسيح دون يثير الأمر أي اعتراض، ولكن وزير الثقافة بنفسة اضطر للقيام بالمصادرة الثالثة مع فيلم “آلهة والملوك” الذي يروي قصة النبي موسى ومعاناته هو وقومه داخل مصر، فقد كانت المغالطات التاريخية التي يحتويها الفيلم أكثر من أن يمكن تحملها، خاصة هي تحاول أن تؤكد على المزاعم التي دأب اسرائيل على ترديدها، وهي تعتمد على حفنة من الأكاذيب لتثبت تواجد اليهود في المنطقة، فلايوجد أي دليل مادي أو زمني على أنهم قد قاموا ببناء الأهرام، ولم تكن مصر القديمة “هولوكست” تاريخي يضطهد اليهود، خاصة أن اسرائيل تقوم بدور الجلاد الذين يسومون اخوتنا الفلسطينيين العذاب، وهم يحاولون تزييف التاريخ لتبرير جرائمهم المعصرة، رغم النقاشات التي اثيرت حول منع الفيلم فقد كان لابد من الدفاع عن تاريخنا الوطني في مواجهة صورة مضللة تخدم عدونا المباشر، وعلينا أن نحمي البسطاء من جمهور السينما من عملية غسيل المخ الذي يهدف لها الفيلم، اجل.. لا أحد يحب المنع خاصة في الأعمال الفنية ولكن ما العمل إذا كانت النوايا خبيثة تريد الطعن في تاريخنا وهويتنا.