بقلم: علي عبيد الهاملي
– ألا تلاحظ أن الليل نزل بسرعة؟
فاجأني بالسؤال، قلت:
- وقفنا كثيرا مع بائع الورد.
- هناك غش في المواقيت.
قال ذلك كمن يطلق حكمة بليغة، جملة لا تكذب ولا يمكن تكذيبها. ثم نظر إلى ساعته وقال: - الساعة الآن تجاوزت السادسة لكن الليل يبدو قد انتصف. هناك غش في المواقيت. هناك غش في المواقيت. تنظر في ساعتك فترى وقتا. تنظر حولك ترى وقتا آخر.
قلت ضاحكا: - يا حسن ارحمني من أفكارك.
ضحك بدوره.
كان أحمد وحسن يقفان أمام بائع الورد الأربعيني الأسمر النحيل، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتطرق فيها حسن إلى موضوع المواقيت في رواية الكاتب المصري إبراهيم عبدالمجيد «عتبات البهجة».
في مكان آخرمن الرواية كانا يجلسان في الحديقة الصغيرة التي اكتشفاها قريبة من بيتيهما قبل فترة. قال أحمد بعد أن نظر حوله: - كيف لا يوجد أحد بالحديقة؟
قال حسن: - لم يكن ذلك يحدث من قبل قط في السبعينيات وليس حتى في الستينيات من القرن الماضي، وكان عدد السكان ثلاثين مليونا. كنت دائما تجد الناس في الحدائق حتى بعد أن ينتصف الليل.
وتنهد تنهيدة طويلة. وقال: - يا إلهي. كان ذلك كله في القرن الماضي. تصور؟
فكر أحمد قليلا وقال: - فعلا، صعب جدا أن تقول القرن الماضي ولم تمر بعد خمس سنوات من القرن الجديد.
قال حسن: - ألم أقل لك إن هناك غشا في المواقيت؟
سكتا، وأطرق حسن شاردا شرودا لم يره أحمد من قبل وهو ينظر إلى الأرض.
هناك غش في المواقيت! ربما يبدو الأمر مغرقا في الخيال أكثر منه متكئا على أرض الواقع، فالمواقيت هي الوحدات التي يقيس بها الناس مرور الزمن في حياتهم ويعرفون بها أعمارهم، وحين يحدث غش في المواقيت فإن هذا يعني أن هناك غشا في أعمارنا،أن هذه الأعمار غير حقيقية بشكل من الأشكال، ذلك أن تفاوت الإحساس بالزمن وفقا للحالة النفسية التي يمر بها الإنسان مقبول في الروايات والشعر وصنوف الأدب الأخرى، لكنّ وحدة قياس الزمن تبقى ثابتة لا تتغير، إنها محسوبة بشكل دقيق لا يقبل الغش.
في موقع آخر من الرواية، تظهر مسألة محيرة أخرى لها علاقة بالوقت أيضا. بدأ الحوار من طرف حسن هكذا: - ماذا جرى لك يا أحمد. تنظر إليّ كأنك لا تعرفني؟
جلس أحمد وقال حائرا: - أنا لست هنا.
ابتسم حسن وأشاح بيده في استهتار وقال: - بسيطة. المهم أجب على سؤالي. هل ساعتك تتحرك؟
- طبعا.
- انظر إليها.
- نظر أحمد إلى الساعة. كانت تقترب من الخامسة. قال:
- الخامسة إلا عشر دقائق.
قال حسن: - الحمد لله. هناك ساعة تعمل.
نظر إليه أحمد بدهشة، لكن حسن استطرد: - أمس صحوت من النوم فوجدت جميع ساعات البيت متوقفة. أنت تعرف أني أضع ساعة حائط في كل غرفة. كلها رأيتها متوقفة، وساعة يدي. في طريقي إلى العمل سألت أكثر من واحد عن الوقت فوجدت ساعته متوقفة، وجدت أيضا ساعة مكتبي متوقفة، وجميع ساعات الموظفين. ظللت طوال الليل أتصل بك لأسألك عن الساعة ولم ترد علي. اليوم أيضا لم ترد علي، ولم تتحرك الساعات في البيت عندي رغم أنني غيرت بطارياتها جميعا، ساعة يدي أيضا غيّرتُ بطاريتها الصغيرة ولا تتحرك.
قال أحمد في يأس: - يبدو أن الزمن توقف فعلا.
في المساء، عندما كانا عائدين في سيارة تاكسي، نظر أحمد في ساعته فوجدها متوقفة. سأل السائق عن الوقت فقال: - للأسف الساعة متوقفة منذ الصباح.
التفت حسن ينظر إلى أحمد مندهشا. قبل أن يتكلم حسن وجد أحمد نفسه يقول له: - لا تنس أن ننزل عند الحديقة.
فكر أحمد فجأة أنه وحسن على قدر تحمسهما لأي شيء إلا أنهما لا يكملانه أو لا يكتمل. سأل صديقه عن سر ذلك فقال: - الوقوف على عتبات البهجة دائما أفضل من البهجة نفسها. أجل، البهجة أمر سهل، لكن إذا طمعت فيها قتلتك وأهلكتك.
لم يقتنع أحمد بكلام حسن، لكنه كالعادة صدّقه، ومشيا صامتين.
يبدو أن إحساسنا بالبهجة يختلف من زمن إلى زمن، يبدو أنه يختلف من عمر إلى عمر أيضا.
سواء عملت الساعات أو توقفت، يبقى قطار العمر منطلقا حتى يصل محطته الأخيرة.
هناك غش في المواقيت؟ ربما. ربما يكون هناك خلل في الساعات المخبّأة داخلنا أيضا.