بقلم: مينا بشير
استيقظَ ذات صباحٍ مُكَرَّرٍ ليُعيدَ الروتين نفسه للمرّةِ الألف، أو ربَّما للمرّةِ المليون. نظرَ إلى ما وراء المِرآة فألفى شَرخًا جديدًا في روحهِ القديمة، شرخًا آخرَ يُنذِرُ بانهيارٍ وشيك. لكن ذلك لم يَعُد مُهِمًّا على كل حال، فقد أصبحَ الانهيارُ روتينًا أيضًا. المرآةُ بذات نَفسِها باتَت مُخدَّرةً بوهمِ الصُمود، كانَت تَظُنُّهُ قَويًا، فأصبحَت تَتَغاضى شيئًا فشيئًا عن ندَباتِ روحه و كُسورِ قلبه، فهي في نهايةِ الأمرِ ليست سوى قطعةٍ زُجاجيةٍ حادّةِ الزوايا و الأطراف، إنها لا تُتقِنُ تصويرَ الأشِعّةِ المقطَعيةِ الروحيةِ و لا تستَطيعُ ترجَمةَ المَشاعِر. هي لا تُجيدُ سوى أن تكونَ مِرآة، و لا تعرفُ شيئًا غير الانعِكاساتِ المُزيِّفةِ و صوَرِ القُشورِ البشَرية.
في ذلك اليومِ خرجَ مُسرِعًا دون أن يفتحَ أبوابَه، كان بابهُ مُقفَلاً بإحكام. هرعَ إلى الخارجِ و لم يَنتَبِه إلى أنه نَسيَ شيئًا مُهِمًّا. هذه المرّة لم يَنسَ ارتِداءَ سُترَتهِ الراقيةِ أو عَقدَ ربطةِ العُنُق، لقد نَسيَ أن يرتَديَ القِناع. لا عجَبَ في أن وجهَهُ كان أثقلَ منَ العادة. وَجهٌ عارٍ يَهُمُّ بالهرَب، يتَمَنّى التَواري عن كل تلك الأنظارِ الفُضوليةِ المُتَفَحِّصةِ التي تَتَرَبَّصُه. ربَّما يَنتَهي به المَطاف أن يُصبحَ بطَلَ قصّةٍ شَهيرةٍ كذلك الأنفِ المَحظوظِ في قصّةِ غوغول. عادَ المسكينُ إلى غُرفتهِ باحِثًا عن قِناعِهِ العزيز، و عندما وجَدَهُ مُلقىً في الزاويةِ تَناوَلهُ بأنامِلَ مُرتَعِشة و هَمَّ بوَضعهِ على ذلك الوجهِ الحَقيقي، لكن القِناعَ فَضَّلَ الانتِحار، لم يَعُد يَشعرُ بهَيبَتهِ أو تَمَيُّزِه، ذلك أنه أصبحَ الآنَ موضةً مُنتَشِرةً أكثرَ من مَساحيقِ التجميل، لكن وَظيفَتهُ كانت أصعبَ من تلك المَساحيقِ السَطحية، فهو يدخُلُ إلى العُمقِ ليُزَيِّنَ الذاتَ التي أدمنَت التَبَرُّج. لقد سَئِمَ هذه الحفلة التَنَكُّرية و لم يَعُد يَحتَمِلُ لُعبةً أخرى، لم يَعُد يُريدُ المُقامَرةَ بتلك الأكاذيبِ الرَخيصة. أصبحَ ذلك الوجهُ ثَقيلاً على القِناع، أصبحَ رَثًّا خَشِنَ الملمَس كجلدِ أفعى، لكن تلك الأفعى كانَت طيبةً إلى حَدِّ السَذاجة. بينَ الوجهِ و القِناع…أميالٌ من الخِداع، حيث تَرقُدُ الحقيقةُ غائِبةً عن الوَعي.
لماذا يَتِمُّ تَبليطُ الوجوهِ أكثرَ من شَوارعِ بِلادِنا؟ إلى متى تستَمِرُّ هذه الكِذبةُ المَفضوحة؟ فالجميعُ يفهمُ ما يحدُثُ سِرًّا، لكن الأفواهَ مُلجَمةٌ بحُجّةِ المُسايَرة. حتى الأحاديثُ باتَت مُتَّشِحةً بالأقنِعة، و طالَت حَربُ الأكاذيبِ البارِدة دون أن يَلحَظَها التاريخ. نحنُ نَختارُ بكل بَلاهةٍ أن نَكسو وُجوهَنا بدلَ الأرجِلِ العارِيةِ و العُقولِ الجاهِلة، نختارُ أن نلعبَ هذه اللُعبةَ بأنانيةٍ رغمَ خَسارَتنا الحَتمية، فقط لأننا نَبحَثُ عن فُتاتِ الانبِهار، رغمَ أننا لا نَشعرُ بالجوع.