بقلم: نعمة الله رياض
كان سالم مغرماً بسياحة السفاري ، وكان ينتهز الفرص الشحيحة لاجازة يحصل عليها من عمله ليدعو إصدقائه وأقاربه لقضاء العطله فى الرحلات التي تنظمها شركات سفاري في الصحراء ، وتوفر فيها للسائحين سيارات الدفع الرباعي ، والسائق الذي غالباً ما يكون دليل الرحلة ، لمعرفته بكافة الطرق والدروب ، كذلك توفر الخيام ومستلزمات مراقبة وتصوير الحيوانات والمخلوقات الأخري التي تعيش فيها ،كما توفر احياناً أدوات التزحلق علي كثبان الرمال الناعمة.. والرحلات التي يفضلها سالم ، تبدأ من القاهرة وتتجه نحو الواحات البحرية بالقرب من الحدود الليبية، حيث توجد مناطق الكثبان الرملية، والغرود الصحرواية المتحركة، والمحميات الطبية، وعيون الماء الرومانية والمعابد والمزارات السياحية الأخرى التي تنتشر في تلك الاماكن الصحراوية..
حان موعد الأجازة السنوية لسالم وأصدقاءه، واتفق معهم علي القيام برحلة التخييم علي الطريق الممتد من القاهرة للواحات البحرية ، كان عدد المشاركين في الرحلة ستة أسر من المتزوجين حديثا بالإضافة إلي سالم والسائق الدليل ، فيكون مجموع أفراد الرحلة أربعة عشر فرداً ، وكان مقدراً للرحلة عشرة أيام ، ثلاثة أيام للسفر والإنتقالات وأسبوع للزيارات السياحية وللاستجمام ، وخصصت لهم شركة سفاري أربع سيارات دفع رباعي وسائق وهو أيضاً دليل الرحلة ، علي أن يقود السيارات الثلاثة الأخري سائقون من أعضاء الرحلة يتبعون سيارة الدليل .. وقد تزودوا بما يلزم من الأطعمة الجافة والماء بما يكفي لأكثر من أسبوعين ..
سارت الرحلة علي ما يرام لمدة يومين ، لكن علي غير المتوقع، هبت عاصفة رملية شديدة هوجاء إنعدمت فيها الرؤية تماماً واستمرت ليومين تاليين، إضطروا فيها للتوقف للإحتماء داخل الخيام والسيارات .. بعد أن خفت قوة العاصفة قليلا ، نادي سالم علي أعضاء الرحلة لمراجعة عددهم ، وتقييم الوضع ، فإكتشف أن سائق سيارة القيادة ليس موجوداً، وبعد تفتيش المكان مرة أخري ، أعلن للجميع أن الدليل يعتبر مفقوداً ، لإحتمال سقوطه ودفنه أسفل أحد الكثبان المتحركة أثناء العاصفة.. حدث هرج غاضب ، وبالأخص بين النساء اللاتي أصبن بالهلع والرعب خوفا على حياتهن . جرب أعضاء الرحلة إستخدام هواتفهم المحمولة لطلب الإستغاثة ، ولكنهم وجدوا أن شبكة الإتصالات معطلة بسبب العاصفة الرملية ، طلب سالم من أعضاء الرحلة جرد ما عندهم من طعام وماء ، إتضح أن مخزون الطعام يكفي لخمسة أيام أخري ، وقارب مخزونهم من المياه علي النفاذ .. فتش سالم حقيبة السائق الدليل فعثر علي أربعة صواريخ نارية للإستغاثة وطلب النجدة ، قرر إطلاق واحد منها فوراً وإطلاق صاروخ آخر في الساعة العاشرة مساءاً، ولم يحصل علي إستجابة .. إنصرف المجتمعون علي أمل اللقاء في صباح اليوم التالي .. لم يستطع سالم النوم في هذه الليلة ، مع تسارع دقات قلبه أحس بالخوف يتسرب إلى وجدانه. لم يمر بموقف صعب كهذا من قبل. صحيح انه ذاق طعم الفشل مرات عديدة في حياته، لكنه لم يسمح أبداً بتسرب اليأس إلى قلبه. مرت ذكرياته كالطيف أمام عينيه ، في واحدة من ذكرياته ، تحدي وهو طالب في المرحلة الثانوية في حصة الألعاب طالب أخر بارع في لعبة كرة التنس وهزمه وسط دهشة الطلبة ومدرس الألعاب الذي أصر علي ضمه لفريق الكرة ..أيضاً فاز بالجائزة الثالثة في الشطرنج علي مستوي كليات الجامعة ، وكان يصل لهذه المستويات بالتدرب والممارسة في الفرص المتاحة ، وكان يفشل في اللعب في البداية ، ثم يكتسب الخبرة للوصول إلي مستوي إحترافي .. هذه الذكريات حفزته علي التفكير في انه قد جاء الوقت ليبحث عن حل لإنقاذه ، هو وزملائه .. في الصباح الباكر إجتمع المشاركون في الرحلة ، قال أحدهم إنه وثلاثة من زملائه شاهدوا طائرة مسيرة تحوم حول المكان لعدة دقائق ثم إختفت ، علق سالم علي ذلك بقوله :- لإن جميع السيارات ما زالت مغطاه بالرمال بفعل العاصفة ويصعب رؤيتها من الجو، كما إنه من الصعب إزالة كل هذه الرمال من أمام السيارات ومن حولها ، بالإضافة إلي إختفاء الطرق المعبدة تحت الرمال الكثيفة .. إقترح سالم حلا قد ينقذهم من هذه الكارثة ، قال :- يجب أن نضع في إعتبارنا تأخر وصول النجدة لإستمرار هبوب العاصفة وصعوبة قيادة السيارات مما قد يتسبب في موتنا عطشاً وجوعاً إذا جلسنا ننتظر في مكاننا هذا، وأقترح أن نجمع كل المؤن والمياة ونستعين بالبوصله ومواقع النجوم في الوصول إلي شاطئ البحيرات ومياهها العذبة.. إنبري أحد المشاركين بالقول :- لقد تأكدنا أنهم يبحثون عنا وقد ارسلوا فعلا طائرة مسيرة ، وعما قريب سيتم إرسال طائرة مروحية لإنتشالنا ، كل ما علينا عمله هو ارتداء ملابس داكنة اللون ، لتتميز عن لون الرمال الصفراء، وإطلاق الصفير وتشغيل أبواق السيارات ، واطلاق صاروخ ناري للإستغاثة ، والتلويح بالأعلام عند مشاهدة طائرة تحوم حول المكان .. نال الإقتراح الثاني إستحسان الجميع عدا سالم الذي أصر علي إقتراحه .. وأمام إصرار الجميع علي البقاء في السيارات إنتظاراً لوصول النجدة ، قرر سالم الذهاب منفرداً مع كلبه الأليف والذي لا يفارقه أينما ذهب .. باستخدام البوصلة حدد سالم إتجاه سيره وهو الشمال الشرقي ، آملاً أن يصل إلي الواحات خلال يومين أو ثلاثة علي الأكثر ، أعطاه المشاركون في الرحله نصيبه من الطعام والماء وتمنوا له التوفيق في الوصول إلي من يستطيع نجدتهم .. كان يتوغل في الدرب الذي يعتقد انه يؤدي للواحات، ويستريح في الخيمة ، التي أخذها من سيارته ، ساعات الظهيرة الحارة، ويستأنف التحرك عصراً ، وفي الليل يهتدي بمواقع النجوم لتحديد إتجاه حركته ..سارت رحلتة علي ما يرام لمدة يومين كما هو مقرر ولم تظهر بعد أي علامة تدل علي إقترابه من هدفه وانتهي تقريباً مخزونه من المياه. في اليوم الرابع علي بدء تحركه منفرداً ، كانت الشمس ساطعة في كبد السماء، ترسل لهيباً تتلظي منه حبات الرمال في الصحراء المترامية الأطراف،لاحظ سالم أن كلبه يحاول التخلص من السلسلة والطوق اللذان يقيدان حركته، وعندما حرر الكلب من قيده جري ناحية تل من الرمال وصعد إلي قمته ونظر حوله، ثم عاد مسرعاً إلي صاحبه وجذبه من بنطاله طالبا منه التحرك نحو التل .. من شدة الإرهاق ، مشي سالم بصعوبة في إتجاه التل ولم يستطع إستئناف الحركة ، فأرتمى على الأرض خائر القوي تماماً ، لا يستطيع حتى أن يرفع ذراعه لإعلى طالباً النجدة ، أغمض عينيه ، وبكل ما تبقي له من قوة صرخ بصوت مجلجل صرخة عظيمة ، يمتزج فيها الألم والعذاب ، الأمل واليأس ، الصراع بين غريزة التمسك بالحياه وبين انهيار الجسد وإستسلامه للموت .. صرخ صرخة مدوية ، من أعماق قلبه :- [[ عطشـــــــــــان ]] .. بعدها فقد وعيه ..ترددت أصداء الصرخة بين الكثبان الرملية وسمعها فرد الحراسة الجالس في الجانب الآخر من التل ، والمقام فيه عدة خيام لرحلة أخري لسفاري .. أسرع فرد الحراسة بتسلق التل ليعرف مصدر الصرخة ، فوجد سالم ملقي علي الأرض وبجانبه يربض الكلب يصدر أصواتا يغلب عليها الألم ، أخرج فرد الحراسة بسرعة زجاجة مياة من حقيبة ظهره ووضع فوهتها علي لسان سالم الجاف والمتشقق ، فشرب نصفها بشراهة واشار لفرد الحراسة ليقدم الباقي لكلبه المخلص والذي اوصله لمن يستطيع نجدته.. أمسك فرد الأمن بالصافرة المعلقه حول رقبته وأرسل بها صفير الإستغاثة ..
هرع أعضاء السفاري وحملوا سالم إلي خيمتهم وقدموا له ولكلبه الرعاية الطبية اللازمة ليستردا عافيتهما ، تجمعوا حوله وإستمعوا لقصته وسألوه كيف تحمل العطش كل هذه المدة ؟ أجابهم :- إنها قطرات الندي يا سادة !! ، فهي التي انقذتني من العطش الشديد ، فقطرة الندي تتكون في الليل علي سطح أوراق النبات الصحراوي وتتبخر في الصباح الباكر ، ويتحول بخار الماء إلي ماء سائل عند ملامسته سطح بارد ، وبذلك ينتج ماءاً نقيا بتكثيف جوي بمعدل أعلي من معدل تبخره من علي سطح الصبار والنباتات الصحراوية ، وكنت أجمع بهذه الطريقة كل صباح باكر ملئ كوبينً مصنوعين من المعدن ، وكانت تبقيني بالكاد علي قيد الحياة بالرغم من معاناتي من الجفاف الشديد …
فور استرداد سالم لوعيه طلب من أفراد السفاري الذين انقذوه الإتصال بوزارة السياحة لتجهيز طائرة مروحيه ليستقلها مع فريق الإنقاذ لإرشادهم لموقع زملائه في الرحلة ..
لقد خاض سالم معركة شرسة ضد قوي الطبيعية تؤكد مدي قوة الإنسان وتصميمه وعزمة على نيل أهدافه ، والوصول إلى ما يصبو إليه ، وإمكانية انتصاره على قوى الطبيعة ، مهما كانت صعبة ..
فالإنسان الحر يمكن هزيمته أحياناً ، ولكن لا يمكن قهره أبداً !!…