بقلم : سناء سراج
جلست والخوف بعينيها تتأمل حظي المقلوب قالت يابٌنيتي الحزن عليك هو المكتوب ..
وسيمضي بكِ العمر مهمومه مكسورة وستحزني يابنيتي كثيرا وكثيراً..
وسيظل الوجع الدائم رفيقك والألم النابض صديقك فلا تحزني ولا تبتئسي هذا قدرك المحتوم.. هكذا رددت لي قارئة الفنجان تلك الكلمات ..
جلس [ محمد او ميدو ] كما يحب أن يناديه أحبته وأصدقائه ، في كافية واذ به يفيق من دوامة أفكاره ، وشرود ذاته على إمرأة عجوز تقرأ الفنجان لشخص جالس أمامها، وكأنه يخوض امتحان صعب مترقب متوتر عيناه زائغتين حائرة ، ولكنه ليس بسعيد ..
علي الجانب الآخر نظر ميدو فإذا بسيدة في أواخر العقد الرابع من عمرها ورغم الأحزان المتراصة علي ملامحها ، والهموم المرسومة علي قسمات وجهها وبحار الدموع الغارقة فيها مقلتيها واهدبها، تجد شئ ما يحمله تلك الوجه الصامت الناطق ما هو ؟ لا أدرى ، ولكن فيه عمق وثراء وبئر من الأسرار..
وفجأة مرت من أمام منضدتها العرافة أو قارئة الأقدار كما تدعي .
وكانت تلك السيدة العميقة تحتسي فنجانا من القهوة، وترتشف آخر رشفة فيه، أرجح أن مرارته اخف وطأة من مرارة حياتها حيث تغيرت ملامحها وكأنها شعرت بمذاق مر .
دار همس بينها وبين العرافة و توقعت أنها تعرض عليها قراءة الفنجان الذي لم يبرد بعد، فنظرت إليها بشرود وبإيمائه بسيطة تدل على الموافقة والاستلام، ونصف ابتسامة ساخرة وكأنها تعرف ما الذي تقوله قارئة الأقدار. وفجأة انتبه محمد او ميدو على صوت تسرب إلى مسامعه وكأنه يحاكي الواقع .
رفضك يا زماني يا مكاني انا عايز أعيش في كوكب تاني فيه الإنسان لسه إنسان ..
دفعني الفضول أن انتقل قريبآ من منضدة السيدة الأربعينية والتي يكسو ملامحها أوجاع وهموم ثقال ترتسم في دمعة حائرة في عينيها تكابر وتحاول ألا تسقطها. واقتربت لاستراق السمع واكون بجوار تلك السيدة الغامضة ..
وبدأ الحديث بعد أن أخذت العرافة الفنجان المقلوب ونظرت فيه بعمق ولكن الغريب أن تلك السيدة صاحبة الفنجان لم تعرها اي اهتمام أو تبدي أي شغف لمعرفة ما تخبئه الأقدار ، وكأنها تعرفه مسبقا .. بدأت العرافة تسرد بعض الأشياء أنتي تعيشين في حيرة وقلق والهموم تكسو وجهك وحزن عميق يملأ عينيك ، ولكن الفرح قادم وسوف تعيشين أيام جميلة فسعدي بها وإذ بتلك السيدة تنظر إليها وابتسامة تهكم تعلو ثغرها وكأنها تقول لها بلاش خداع ونصب ، أفراح وسعادة ، وانتهى الحوار بينها وبين العرافة عند هذا الحد ..
وكم تمنيت أن تسنح لي الفرصة واقترب منها وأحدثها، لماذا ياسيدتي هذا الحزن العميق العتيق المرسوم والساكن في عينيك وكأنه سفن مهجورة ترسو علي شاطئ أهدابك لماذا هذا الألم العظيم الذي اشعر انه يقسم ظهرك ، لماذا تحملين تلك الأوجاع التي اشعر أنها تثقل كاهلك ، لماذا اسمع دقات قلبك المتسارعة وكأنها تسابق الزمن ، وتلهث خوفا من الأقدار والأزمان .
وقطع هذا الصمت والشرود رنة حزينة لهاتفها ، بكل شغف ، أمسكت بالهاتف ونظرت إليه ثم جاء صوت مسموع عبر الأثير وإذا بها تفتح الميكروفون ولكن بصوت منخفض وبدون أن اشعر سخرت كل حواسي بكل شغف أن استمع إلى الحديث الجارى بينها وبين الشخص المتصل والذي عرفت فيما بعد انه ابنها ..
الو ايوة ياميدو ..
ايوه ماما.. عاملة ايه ياحبي ..
فتبسمت وقالت الحمد لله أخبارك ايه ياقلبي ..
انا تمام والله ..
انتي فين ..
انا في كافية في الشيخ زايد .. بس هادي وجميل .. تقدر تجلس براحتك .. ومن غير زبادي خلاط ب ١٠٠جنية ..
فضحك ميدو وقالها لسه فاكرة .. ياستي هاديك الـ٢٠٠ جنية .. بس روقي كده .. نفسي اشوف ضحكتك ..
ان شاء الله ..انت فين ..
انا في اكتوبر نص ساعة و اعدي عليكي ..
انا استلمت العربية والحمد لله كويسة ..
والله .. طيب تمام .. هستناك..
ماشي.. ماما اجبلك معايا حاجة وانا جاي..
لا تعالي بالسلامة ..
أغلقت الهاتف و شردت قليلا ثم أمسكت به مرة أخرى ويبدو أنها قامت بالبحث عن شئ.. وبعدها سمعت صوت منخفض يتسرب إلى مسامعي .. انه العندليب الأسمر عبد الحليم اي دمعة حزن لا لا لا .. أي جرح في قلب لا لا لا أى لحظة حيرة لا لا لا ..
فنظرت إليها من بعيد فرأيت عيون تبكي بدون دموع ولمحة الحزن تضوي في تلك المقلتين ، ثم قطع هذا الصمت الناطق شاب عشريني طويل القامة يتسم بالوسامة والأناقة نظر يمينا ويسارا ثم اتجه إلى تلك المنضدة الجالسة عليها تلك السيدة الغامضة ودار هذا الحوار ..
ازيك ماما.. اهلا ميدو..
عاملة ايه ياحبيبتى
الحمد لله تمام..
وهنا زاد شغفي لكي اعرف تفاصيل الحديث الذي سيدور بينهما . وخاصة أنني أحمل نفس الاسم لابنها ..
هي .. جبتلي اسم الدكتور النفسي اللي قلتلك عليه .. ولا اتصل بدكتورة التجمع ..
قالها جبته بس اهدي كدا علشان أعصابك.. انتي ايه اللي يريحك واحنا ننفذها..
قالت بصوت مخنوق بالدموع .. أنا مش عارفة أنا عاوزة ايه .. أنا مش عارفة أعيش .. ومش عايزة أعيش .. البني آدم دا قتل جوايا الحياة .
معنديش رغبة في أي حاجة .. مثلا مش عاوزة أكل حاجة معينة كنت بحبها ونفسي فيها .. مش عاوزة أروح الشغل اللي كنت بحبه .. مش عايزة اخرج ولا أتكلم مع حد .. وفي نفس الوقت عاوزة أتكلم مع حد احكيله علي اللي أنا فيه وازاي بعاني وبتألم بس دورت ملقتش أن فيه حد معين اقدر احكيلة عاللي جوايا وخنقني ومدمرني ..انا مليش أصحاب رغم معرفتي بناس كتير اوووي ..
و بنبرات صوت حزين مختنق ينم عن أوجاع وجراح عميقة وهموم كا كتل الجبال قالت .. انا مش لاقيه حد أتكلم معاه .. كل واحد فيكم له حياته .. و انشغالاته .. مفيش حب ولا دفا ولا أسرة مترابطة زي الاول .. مفيش ذكريات غير الذكريات القديمة اللي من سنين مفيش حياة ولا تواصل ولا أحاسيس بينا شئ مقرف ومحزن كل واحد في دنيا لوحدة بنتقابل مجرد لوكاندا او فندق .. ليه الناس يوصل بيها الحال للغربة دي من غير سفر .. الوحدة والفراغ رغم كل هذا الصخب..
انا نفسي اضحك من قلبي .. انا نسيت ازاي الناس بتضحك .. إزاي الناس بتفرح .. انا مسجونة من غير قضبان ، عاجزة من غير إعاقة ..
وهنا قاطعها وقال لها يعني الدكتور النفسي هو اللي هيقدر يحل كل المشاكل دي ويخرجك منها
ردت علي الأقل هلاقي حد يسمعني، يناقشني ، يحس بيا ..
فقلها .. انا سمعك لو عايزه تتكلمي ..
فشردت قليلا.. وجففت دموع ظلت كثيرا حبيسة ، حتي انهارت في صمت وبكت، وكانت الدموع ونظرة الحزن ابلغ من اي كلام ..
انا مش عاوزة اي حاجة .. انا اصلا معنديش رغبة في الحياة انا مش عارفة اعيش ، انا مش عارفة ازاي تحملت وصبرت على بني آدم زي دا ، بكل تصرفاته ..
انا بكره نفسي وضعفي واستكانتي .. ليه ليه استحملت كل ده ، علشانكم ، انت ممكن تخرج مع صحابك وتفضل معاهم أكثر من ٧ او ٨ ساعات متصلين بدون ضجر او ملل او تعب انت بتعمل كدا مع امك او ابوك او اقاربك .. لماذا ؟؟ حاجة غريبة جدا انا كنت بعدي وافوت حاجات كتير علشان خاطركم ، علشان نفسيتكم وشكلهم الاجتماعي ، بس لقيت منكم عدم التقدير عدم الإحساس والاهتمام .. هو كمان استغلني بأسوأ صورة ، استغل حبي وكرمي وطيبة قلبي وحناني ، دا لو اي حد غيره كان شالني فوق دماغه لآخر العمر على جدعنتي ومساندتي له واصلي الطيب ومراعاة أسرته عمرى كله.. وخاطبت الغائب المجهول قائلة:
ليه الجحود والنكران .. ليه تدوس علي قلب حبك ، ليه تجرحه وتكسره بدل المرة ألف . انا عملت معاك اللي معملتوش مع امي وابويا واقرب الناس ليا ..
وقتها ربت علي كتفها احتضنها بعينيه و بنبرات صوته وقال لها اهدائي واللي انتي عاوزاه هنعمله بس احنا كلنا بنحبك اوى و عمرنا ما نقدر نستغني عنك
وغادرا المكان سويا .. ورحلت معهم الحكايه ..
وكم تمنيت أن أغادر مقعدي واقبل يديها اجلالا واحتراما وانحني تقديرا لتلك السيدة ذات العيون الجميلة والحزينة..