بقلم: فريد زمكحل
مخطئ من يعتقد بأن التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب لرئيس الوزراء الكندي المستقيل جاستن ترودو عن كندا كانت على سبيل المزاح لا أكثر، خاصة لو عرفنا بأن الأطماع الأمريكية لضم كندا للولايات المتحدة الأمريكية لتكون الولاية رقم (51)، ليست وليدة اليوم، وإنما تُعّد بمثابة حلقة جديدة من سلسلة العروض الأمريكية المستمرة ضد كندا منذ الولاية الأولى للرئيس ترامب من سنة 2017 إلى 2021، والذي يستعد بدوره لتسلم مهام منصبه لولاية جديدة في 20 يناير الجاري 2025 لمدة أربع سنوات، ليكون سيد البيت الأبيض خلفاً للرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن والخوف والقلق الذي ينتاب العالم وكندا بصفة خاصة من هذه الولاية الجديدة، نابعة من هذه التصريحات الخطيرة الذي يؤكد من خلالها عزمه على إقامة وكالة جديدة للضرائب لفرض وجمع المزيد من الضرائب على جميع الدول التي تتعامل مع الولايات المتحدة وتستفيد منها بما في ذلك كندا الذي قرر فرض رسوم جمركية عليها تصل إلى 25% على كافة السلع الواردة منها للولايات المتحدة ، ويعتمد عليها الاقتصاد الكندي بنسبة تقارب من 75% وهو ما يعني في حال تنفيذه ضرباً للاقتصاد الكندي في مقتل وارتفاع نسبة البطالة الكندية مع التراجع الاقتصادي الملحوظ في الوقت الراهن خاصة والفكرة قديمة والأطماع تاريخية وليست وليدة اليوم كما قلت، وترفضها الحكومة الكندية ويرفضها الشعب الكندي جملة وتفصيلاً، على الرغم من الإصرار الواضح على تنفيذها من جانب الرئيس ترامب الذي ألمح بأنه سوف يستخدم القوة الاقتصادية وتأثيرها البالغ على الاقتصاد الكندي لدفع كندا والشعب الكندي للقبول بالانضمام للولايات المتحدة الأمريكية، ولكن ما هي نقاط الضعف التي قد تدفع بكندا للقبول بالانضمام للولايات المتحدة ؟ وكيفية الخروج الآمن لها من كل هذه المؤامرات الأمريكية التي تحاك ضدها رغم العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية التاريخية التي تربط بين البلدين؟
وللرد على كل هذه التساؤلات لابد لنا من أن نعود بذاكرتنا للوراء قليلاً لفترة حكم السيد بيير ترودو رئيس وزراء كندا الخامس عشر لفترتين متتاليتين من 20 ابريل 1968 وحتى 4 يونيو 1979، ومن 3 مارس 1980 وحتى 30 يونيو 1984. الذي وصف العلاقات الأمريكية الكندية وشبهها بعلاقة «الفيل بالفأر» والفأر هنا بالطبع كندا! وهو ما سيتضح لنا لو عدنا بالذاكرة لمساء يوم 15 أغسطس 1971 عندما خرج الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون الرئيس السابع والثلاثين للولايات المتحدة الأمريكية في المدة من 1969 وحتى تقدَّم باستقالته سنة 1974 ، في خطاب منقول على الهواء مباشرة أعلن فيه تعليق أو إلغاء مفهوم قياس الدولار الأمريكي بالذهب وأعلن فرضه تعريفة جمركية جديدة بمقدار 10% على كافة السلع الواردة للولايات المتحدة الأمريكية، ما أصاب العالم أجمع بحالة من الصدمة وعلى وجه الخصوص الحكومة الكندية التي كانت تعتقد بأن العلاقة بين البلدين علاقة خاصة ومتميزة تختلف عن كافة العلاقات التي تربط ما بين الولايات المتحدة وجميع دول العالم، الأمر الذي دفع السيد ترودو لقطع أجازته الخارجية والعودة إلى كندا للاجتماع بحكومته ومناقشة هذا الأمر الخطير معها بعد إعلان نيكسون وتأكيده على عدم استثناء أي دولة من هذه التعريفة الجديدة بما فيها كندا التي كانت قد حققت فائضا تجارياً سنة 1971 يقدَّر بنحو 1.1 مليار دولار كندياً عن العام الذي سبقه 1970 التي حققت فيه فائضاً تجارياً يقدر بنحو 750 مليون دولاراً كندياً، الأمر الذي يهدد بحدوثه مرة أخرى في حال استمرار أو تمسك الإدارة الأمريكية بتحصيل نسبة الـ 10% المقررة من كندا، وعليه تم إرسال وفد وزاري كندي بقيادة وزير المالية الكندي إدجر بنسون مع وزير الصناعة جان بول بيبان لإقناع الإدارة الأمريكية بإستثناء كندا من هذه التعريفة الجمركية الجديدة، إلا أن المحاولة الكندية قد باءت بالفشل، وتم تكرار المحاولة الكندية في نهاية أغسطس سنة 1971 بوفد جديد برئاسة سيمون رايسمان وزير المالية الكندي في ذلك الوقت لمحاولة أسناء الولايات المتحدة من تطبيق التعريفة الأمريكية الجديدة، إلا أن هذه المحاولة قد باءت أيضاً بالفشل كالتي سبقتها ولاحقتها في سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر من نفس السنة، ما دفع رئيس الوزراء بيير ترودو للسفر بنفسه إلى واشنطن في ديسمبر 1971 لمقابلة الرئيس نيكسون أملاً في الوصول لحل لهذا الموضوع الخطير كما قام بمقابلة مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي السيد هنري كسينجر ليعود ترودو لكندا دون الإفصاح عن نتائج هذه الاجتماعات التي كشفت بعد 37 سنة للرأي العام الكندي والتي كُشِفت التعمد المقصود من الجانب الأمريكي ضد كندا للضغط عليها وإضعاف اقتصادها القائم على السوق الأمريكي بنسبة 73% رغم تهديد ترودو بأن الإصرار الأمريكي على تطبيق هذه التعريفة الجديدة على كندا ربما يضطرها للتعامل مع أسواق بديلة وربما أسواق معادية لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن كندا فشلت في فعل ذلك منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، وانعكست نتائجه على الاستقالة المقدمة مؤخراً من ترودو الابن في أوائل يناير الجاري 2025 بعد لقائه بالرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب الذي لا يحبه وأهانه في أكثر من مناسبة ووصفه بحاكم ولاية كندا بعد زيارة سريعة له للولايات المتحدة لمحاولة الضغط على الرئيس ترامب لاستثناء الواردات الكندية للولايات المتحدة من القانون الجديد الداعي لفرض ضريبة أو تعريفة جمركية جديدة بمقدار 25% إلا أن محاولته قد باءت بالفشل كما حدث في عهد رئاسة والده لمجلس الوزراء الكندي، وإن كانت نسبة الواردات الكندية لأمريكا قد ارتفعت لتصل لنسبة 75% في عهد ترودو الإبن، وهنا تكمن المشكلة في عدم قدرة استيعاب السياسيين الكنديين لدروس الماضي وفهم طبيعة الأطماع الأمريكية الممتدة لقرابة 120 عاماً.
والمعروف إن كندا كانت قد وقعت على اتفاقية تجارية سنة 1976 مع الجماعة الاقتصادية الأوروبية (الاتحاد الأوروبي حالياً) والذي كان من المتوقع لها أن تكون بمثابة بوابة العبور للاقتصاد الكندي للسوق الأوروبية لتحريره من التبعية غير المبرّرة للسوق الأمريكي وهو ما لم يحدث للأسف الشديد لاصرار بعض من السياسيين الكنديين على ضرورة الحفاظ على الروابط الخاصة والعلاقات المتميزة بين كندا وأمريكا.
وفي سنة 1988 قام رئيس وزراء كندا براين مولورني بتوقيع إتفاقية للتجارة الحرة مع الرئيس الأمريكي رونالد ريجين والمعروفة باسم (FTA) وذلك قبل إنضمام المكسيك لها فيما بعد ليتحول اسمها إلى (نافته) بموجب هذه الاتفاقية تم إلغاء كافة الحواجز التجارية بين الدول الثلاثة وخاصة بين كندا والولايات المتحدة الأمريكية لتصبح أكثر إندماجاً من الناحية الاقتصادية على الرغم من أنها تسببت في جدل وإنقسام في المواقف بين الأحزاب الكندية حيث كان حزب المحافظين من المؤيدين للاتفاقية وللانفتاح التجاري مع الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الذي عارضها وبقوة رئيس وزراء كندا السابق عن الحزب الليبرالي السيد جون تيرنر الذي وجه انتقادات حادة لبراين مولورني وذلك في مناظرة أقيمت بينهما سنة 1988 بصفته المسئول عن توقيع كندا على اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة و حمّله مسئولية ما حدث وسيحدث للاقتصاد الكندي بسببها بعد أن قاومت كندا كدولة كل هذه الضغوط على مدار 120 عاماً واتهمه بأنه أوقع كندا والكنديين في الفخ الذي نصبه الأمريكيين لإضعاف كندا اقتصادياً تمهيداً لضمها للولايات المتحدة الأمريكية بعد تحويل كندا لتكون بمثابة مستعمرة أمريكية وهو ما ستكتشفه بمقارنة بسيطة لحجم الصادرات الكندية سنة 2011 للولايات المتحدة الأمريكية، التي وصلت لنسبة 73% تحت حكم حزب المحافظين بزعامة ستيفن هاربر، ولكن حتى بعد خسارة هاربر للانتخابات الكندية أمام جاستين ترودو زعيم الحزب الليبرالي يمكننا القول بأن الوضع بقى على ما هو عليه ولم يتغير كثيراً بل على العكس في عهد ترودو الابن كانت كندا كالكتكوت الذي يحتمي بجناحي أمه (الولايات المتحدة الأمريكية) من كافة الاتجاهات الأمنية والسياسية والاقتصادية، واستمر اعتماد الاقتصاد الكندي على السوق الأمريكي كوجهة شبة حصرية سواء في عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما أو في عهد الرئيس الحالي المنتهية ولايته جو بايدن وبنسبة 75%.
و الآن وبعد الهجوم الكبير للرئيس الأمريكي المنتخب على اتفاقية «نافته» ووصفه لها بأنها الأسوأ بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية التي لم تستفد منها مقارنة بالاستفادة الاقتصادية التي تحققت لكل من كندا والمكسيك.
الخلاصة توضح بأن كندا مقبلة على علاقات متوترة مع الجانب الأمريكي بزعامة ترامب في السنوات القليلة القادمة على كافة الجوانب السياسية والأمنية ولكن الأخطر هو ما سوف تسفر عنه هذه العلاقة المتوترة على الجانب الاقتصادي الكندي المعرَّض لكارثة حقيقية لو لم يتم إيجاد الحلول المناسبة لمواجهتها والتعامل معها بجدية.
وفي الختام أُحب أن أقول بصراحة ووضوح للرئيس ترامب بأن كندا ليست للبيع ولن تكون!!