بقلم: د. حسين عبد البصير
مدير متحف الآثار والمشرف على مركز
د. زاهي حواس للمصريات-مكتبة الإسكندرية
على الرغم من أن آثار مصر قد أثرت عليها سرقات وفيضانات وكوارث طبيعية وحروب وإرهاب عبر التاريخ وعرّضتها للدمار والتلف والسرقة، فإن أهم مشكلة تواجه آثار مصر حاليا هي النقص الحاد في إيرادات وزارة الآثار.
تعاني وزارة الآثار تراجعا كارثيا في إيرادات المتاحف والمناطق الأثرية إلى أقل من الخمس منذ حوالي عدة سنوات منذ اندلاع أحداث ثورة 25 يناير 2011. فبعد أن كان دخلها ما يقرب من المليار وربع المليار جنيه مصر كل عام، وكانت تعد مصدرا مهما للدخل القومي، بعد قناة السويس، وبعد أن كانت تمتلك وديعتين تبلغ كل واحدة منهما مليار جنيه مصري، صار دخلها حوالي ربع مليار جنيه مصري أو أقل، وتراكمت الديون على الوزارة من بين مستحقات مقاولي مشروعاتها السابقة وأجور العاملين بها. وانخفض دخل الآثار إلى عشرين مليون جنيه مصري أو أقل في الشهر. وتستدين حالياً وزارة الآثار ما يقرب من خمسين مليون جنيه شهريا من وزارة المالية كي تدبر أجور موظفيها. فعلى سبيل المثال، عقب أحداث الثورة عندما حدث تدمير متحف الفن الإسلامي بالقاهرة نتيجة للحدث الإرهابي الآثم الذي تعرضت له مديرية أمن القاهرة في يناير 2014، وبفضل الله أعاد افتتاحه الرئيس عبد الفتاح السيسي أخيرا بعد سنوات من الإغلاق الإجباري، وقفت الآثار عاجزة عن تدبير أموال الترميم المعماري والدقيق للمبنى وآثاره.
وأدى هذا العجر التمويلي الكارثي إلى التوقف شبه التام وتجمد دولاب العمل الأثري في مصر؛ فلم تعد توجد هناك أعمال حفائر ولا اكتشافات أثرية مصرية إلا قليلاً ولا مؤتمرات أو ندوات دولية كبيرة، وتراجعت أعمال الترميم إلى أضيق الحدود، وكادت المشروعات أن تتوقف تماماً، وقلت الافتتاحات. وتعد آثار مصر الكثيرة، التي تبهر العالم، قليلة العدد مقارنة بما في باطن الأرض منها، وذلك لأن رمال الصحراء أحن عليها من خروجها إلى النور حالياً في ظل العجر الحاد عن ترميمها وعرضها في المتاحف أو حفظها في المخازن. ويتم التركيز حالياً على المشروعات الضرورية، مثل مشروع تطوير هضبة أهرام الجيزة، أو ذات التمويل أو الإقراض الأجنبي، مثل مشروع المتحف المصري الكبير. وصارت تأخذ وقتاً في التنفيذ ولم يعد يعلم وقت محدد بدقة للافتتاح كما كانت الحال من قبل.
وعندما تؤكد الدراسات البيئية أن هناك تآكلا للآثار من جراء تلوث الهواء، فإنه ليس هناك إيرادات لحماية هذه الآثار من دخل الوزارة، وتلجأ الوزارة إلى جهات أجنبية ذات خبرة وتمويل للقيام بالترميم. وهذا يأخذ وقتا طويلا وقد يعرض الآثار التي تحتاج تدخلا سريعا لإنقاذها للخطر، وأزمة لحية قناع الملك توت عنخ آمون خير مثال على ذلك. وتم التعدي على أراضي الآثار والبناء عليها وسرقة عدد من المخازن والمواقع الأثرية والمتحف المصري مساء الجمعة 28 يناير 2011 نتيجة الانفلات الأمني الذي حدث عقب الثورة. ونشط الحفر خلسة في الأراضي الأثرية المترامية الأطراف والتي تحتاج إلى حراسة كثيرة ومشددة، وتم سرقة الآثار وتهريبها وبيعها خارج البلاد. كل هذه الأخطار بسبب أن الآثار مؤسسة حائرة بين مؤسسات الدولة وتمثل إشكالية حقيقية بين مؤسساتها.
فبعد تأسيس مصلحة الآثار في عهد خلفاء محمد علي باشا، كانت الآثار تتبع مؤسسات غير معنية بها على الإطلاق، وبعد الثورة وإلى الآن، تغير على وزارة الآثار عدة وزراء في فترة زمنية قصيرة جداً! ومن المحتمل إلغاء وزارة الآثار وعودتها كمجلس أعلى للآثار يتبع إحدى الوزارات كما يتبع وزارة الثقافة قبل يوم 28 يناير 2011، لتعود الآثار تنعم بمكانها المفضل كما كانت من قبل.
غير أن الوضع الأفضل للآثار، إن كانت الحكومة عازمة على إلغاء وزارة الآثار حقا، أن تتبع الآثار، كمجلس أعلى للآثار، مجلس الوزراء أو رئاسة الجمهورية، وأن يرأسه رئيس المجلس الأعلى للآثار بدرجة وزير، وله كل الصلاحيات المالية والإدارية، وأن يدخل المجلس الأعلى للآثار ضمن موازنة وزارة المالية، وأن يتمتع العاملون به بما يتمتع به العاملون بمجلس الوزراء أو رئاسة الجمهورية في كل الحقوق والامتيازات؛ حتى تبعد الآثار عن متطلبات السياسة، ويتفرغ القائمون عليها لألويات الأعمال الأثرية الفنية المطلوب تنفيذها من رئيس المجلس الأعلى للآثار الذي يجب أن يكون متخصصا في الآثار، ومن العالمين والعاملين بها، ومن القادرين على إدارة هذا القطاع الفني الشائك والحيوي والمطلوب إنقاذه على نحو عاجل. وحلا لتلك المشكلات، يجب البحث عن مصادر أخرى للتمويل لحماية الآثار والعاملين بها؛ لذا فقضية التمويل هي القضية الأكثر إلحاحا الآن وهي حل لكل المشكلات التي تعاني منها آثار مصر والعاملون بها حاليا. وتمويل الآثار المصرية بطرق غير تقليدية هو القادر على حل كل مشكلات الآثار المصرية التي تحتاج للعديد من مليارات الجنيهات لسداد ديونها وترميم آثارها وإجراء اكتشافاتها واستكمال مشروعاتها وعلينا من الآن فصاعدا البحث عن حل جذري لمشكلات الآثار والعاملين بها وليس التعامل مع حل مشكلاتها أو مشكلاتهم بشكل عشوائي أو وقتي أو بالقطعة. ولابد من رسم خريطة تشخيصية لكل الأمراض التي تعاني منها الآثار والعاملون بها ووضعها على منضدة الطبيب في إطار خطة أثرية استراتيجية قصيرة المدى، وأخرى بعيدة المدى، ووفق برنامج زمني يراعي الأولويات ووفقا لخطة مدروسة ومحكمة بدقة تقوم عليها عناصر ذات كفاءة عالية إعطائهم حرية اتخاذ القرار والتمويل والتدريب الكافيين ويمكن الإفادة من تجارب الدول الناجحة في هذا الشأن. إن النظام التقليدي لإدارة منظومة الآثار والآثاريين لم يعد صالحاً لإدارة آثار مصر في أواسط العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وأؤكد أنه يجب على الدولة إدراج الآثار ضمن الموازنة العامة للدولة والإقلاع عن فكرة التمويل الذاتي للآثار التي لم تعد مجدية في ظل غياب الإيرادات بعد أن كانت الآثار الدجاجة التي تبيض ذهبا للدولة المصرية والكل يتكالب للسيطرة عليها. ويجب النظر بعين الاعتبار للآثار والعاملين باعتبارهم كنزا استراتيجيا للحاضر وللمستقبل يجب الحفاظ عليه وعليهم والإفادة المثلى منها ومنهم، والدفع بالاستثمار الاقتصادي الأمثل للآثار والتوظيف الأفضل للعاملين بها ورفع كفاءتهم وفقا لاقتصاديات السوق الحرة المعاصرة.