بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
شِعار “لنجعل أميركا عظيمة من جديد” أطلقه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في حملاته الإنتخابية الرئاسية الثلاث، الأولى عام 2016 عندما فاز على المرشحة الديمقراطية هيلاري كلنتون، والثانية عام 2020 عندما خسر أمام خصمه جو بايدن، والثالثة عام 2024 عندما فاز على المرشحة كامالا هاريس وعاد بعد ذلك الى البيت الأبيض في ولاية ثانية لأربع سنوات تنتهي في مطلع العام 2029.
ما يقصده ترامب من هذا الشعار هو أن أسلافه أرجعوا الولايات المتحدة الى الوراء، وجعلوها تخسر الكثير من نفوذها وموقعها في العالم، ومن ازدهارها وتقدمها الإقتصادي في الداخل. وقد أضاف شعاراً آخر وهو “أميركا أولا” وهذا الشعار يلقى تأييداً واسعاً لدى الجمهوريين اليمينيين المتطرفين الذين يتميزون بنزعة عنصرية ضد المواطنين من العرق الأسود أو المهاجرين من أميركا اللاتينية.
في حملته الإنتخابية الأخيرة، أطلق ترامب وعوداً كثيرة ومثيرة مثل إنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا في خلال 24 ساعة من فوزه وحتى قبل تسلمه الرئاسة، أو تخفيض الأسعار والتضخم المالي في الأيام الأولى من رئاسته، والتخلص من ملايين المهاجرين غير الشرعيين وترحيلهم خارج الولايات المتحدة، أو أيضاً انتقامه من الذين يعتبرهم زوروا انتخابات عام 2020 لصالح جو بايدن، وغيرها من الأمور التي تهم قاعدته الإنتخابية.
منذ عودته الى البيت الأبيض منذ شهر وبضعة أيام، اتخذ ترامب مجموعة من القرارات، سواء في الشؤون الداخلية أو القضايا الخارجية، عبر إصدار مئات القرارات الرئاسية التنفيذية، معظمها أثار ردات فعل سلبية لدرجة أن كثيرين يرون أنها ستؤدي الى تراجع الولايات المتحدة بدل أن تجعلها عظيمة من جديد.
أولا: في الشؤون الداخلية:
في الأيام الأولى من تسلمه الرئاسة، وقع ترامب على عشرات القرارات الرئاسية وقد كان أهمها تكليف الجيش بحماية الحدود ووزير الدفاع بإعداد خطة لإقفال الحدود الجنوبية مع المكسيك، وقد بدأ بترحيل آلاف المهاجرين غير الشرعيين واعتقال بعضهم في معتقل غوانتانامو الذي كان يحوي سجناء عملية الحادي عشر من أيلول 2001 ومعروف بقساوة معاملة السجناء فيه، وفرَضَ رسوما جمركية على المستوردات من كندا والصين والمكسيك، كما أصدر قرارا بتغيير اسم خليج المكسيك ليصبح خليج أميركا، وعرض ضم كندا الى الولايات المتحدة لتصبح الولاية الحادية والخمسين، وشراء جزيرة غرينلاند من الدانمارك.
على صعيد آخر، استعمل ترامب صلاحياته الرئاسية لإصدار عفو شمل أكثر من ألف وخمسماية من السجناء الذين سبق وحوكموا لقيامهم بالهجوم على مبنى الكونغرس بتشجيع من ترامب نفسه في السادس من يناير 2021، لإيقاف تصديق الكونغرس على انتخاب الرئيس بايدن، وقد اعتدوا آنذاك على الحراس الذين قتل عدد قليل منهم، وكسروا الأبواب والنوافد والمكاتب في داخل المبنى، وكان حُكِم على بعضهم بالسجن سنين طويلة، فقام ترامب بالعفو عنهم جميعا وتم إطلاق سراحهم.
كذلك خلق ترامب قسماً حكومياً لدراسة الكفاءة والجدارة في الوظائف العامة على جميع المستويات وفي كافة الوزارات وسلم إدارة هذا القسم لصديقه الملياردير إيلون ماسك الذي كان تبرع بأكثر من مائتي وخمسين مليون دولار لحملة ترامب الإنتخابية. ونتيجة لذلك، بدأ السيد إيلون ماسك بتطهير الإدارة بطريقة وصفها كثيرون بالتعسفية، وقد تم حتى الآن صرف آلاف الموظفين من الخدمة ومئات الآلاف غيرهم في وضع غير مستقر إطلاقا.
قام أيضا الرئيس ترامب، منذ أيام قليلة، بصرف القيادة العليا في الجيش بطريقة غير لائقة وبدون أي مبرر، وصرف مسؤولين كباراً في أجهزة الإستخبارات وفي وزارة العدل وما زال الصرف مستمرا في مختلف إدارات الدولة، والجميع يعرف انه يريد أن يُبعد أكبر عدد ممكن من القيادات في شتى المرافق العامة ليعين مكانهم مسؤولين يدينون له بالولاء التام بصرف النظر عن الكفاءة او الخبرة في القيام بالمهمات الدقيقة. أعداد كبيرة من المصروفين تقدموا بدعاوى أمام المحاكم المختصة وقد تصل بعضها الى المحكمة العليا. ولكن الرئيس ترامب، على ما يبدو، ماض في اتخاذ المزيد من هذه القرارات العشوائية، بصرف النظر عما ستقرره المحاكم أو ما ينتج عن ذلك من ردات فعل لدى الرأي العام.
سنرى في الأشهر القادمة إن كانت هذه التصرفات على الصعيد الداخلي ستجعل أميركا عظيمة من جديد.
ثانيا: في العلاقات الخارجية
فيما يلي أهم القرارات التي اتخذها ترامب على صعيد علاقات الولايات المتحدة مع الخارج:
1- مثلما فعل في ولايته الأولى، بدأ ترامب ولايته الثانية بسحب الولايات المتحدة من عدد من المنظمات التابعة للأمم المتحدة ومن إتفاقات دولية هامة، وقد كان الرئيس جو بايدن أعاد الولايات المتحدة الى هذه المنظمات بعد تسلمه الرئاسة في بداية العام 2021.
أهم هذه المنطمات هي اليونسكو والأونروا ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة واتفاقية باريس للمناخ، وكلها منظمات تلعب الولايات المتحدة دورا هاما فيها، سواء عبر تمويلها أو عبر النشاطات المفيدة التي تنفذها من خلالها، كما أنه ألغى قرارات سابقة كانت صادرة عن الرئيس بايدن بالنسبة الى حماية البيئة مثل استخراج المعادن من المناجم والغاز والبترول دون أية حدود، وفي ذلك ما يضر بشكل كبير بالبيئة.
يضاف الى ذلك قرار خطير اتخذه ترامب وهو إيقاف عمل الوكالة الدولية للتنمية التابعة لوزارة الخارجية والتي تلعب دورا هاما جدا في مساعدة الدول الفقيرة من ناحية الغذاء والإستشفاء وتمويل مشاريع إنسانية، وقد تم صرف آلاف الموظفين العاملين في هذه الإدارة سواء في الداخل الأميركي أو حول العالم، خاصة في دول أفريقية، وقد أدى ذلك الى زيادة المجاعة والأمراض والفقر في هذه الدول التي كانت تعتمد كثيرا على المساعدات الأميركية، ولا شك أن هذه التداعيات السلبية ستتضاعف مع الوقت.
2- فيما يتعلق بأوكرانيا، مع أن ترامب كان تعهد أثناء حملته الإنتخابية في حال فوزه بإنهاء الحرب في اليوم الأول بعد إعلان النتيجة، فإنه لم يبدأ تحركه في هذا الإتجاه إلا بعد ثلاثة أشهر من الفوز. لقد سبق لترامب أن أظهر انزعاجه من الرئيس الأوكراني زيلينسكي وإعجابه بالرئيس بوتين في مناسبات عديدة. فما كان منه إلا أن اتصل بالرئيس الروسي وتحدث معه مطولا بالموضوع دون إعلام الرئيس الأوكراني إلا بعد انتهاء الحديث مع بوتين.
معروف ان خطة ترامب لإنهاء الحرب تقضي بإرضاء بوتين عبر الموافقة على احتفاظ روسيا بالمقاطعات الأوكرانية التي احتلها الجيش الروسي وربما مقايضة مساحة صغيرة من هذه الأراضي لقاء انسحاب أوكرانيا من منطقة كورسك التي احتلتها في الجنوب الروسي، وإعلان أوكرانيا بعدم السعي الى انضمامها لحلف شمال الأطلسي، أي أن النتيجة تكون بالكامل لصالح روسيا. وقد بدأ ترامب يلوم الرئيس الأوكراني متهما إياه بشكل غير صحيح إطلاقا بأنه هو الذي بدأ الحرب، ومعلنا بأن أوكرانيا لا يمكنها الإنضمام الى حلف شمال الأطلسي، كما أنه يطالب أوكرانيا بتسليم الولايات المتحدة نصف المعادن الثمينة والنادرة المستخرجة من الأراضي الأوكرانية لتغطية قيمة المساعدات الأميركية التي قُدِمت لأوكرانيا لدعمها في حربها ضد روسيا في خلال السنوات الثلاث الماضية.
يبدو هنا ان الرئيس ترامب يهمه فقط إرضاء الرئيس الروسي إذ وافق مسبقا على مجمل المطالب الروسية حتى قبل أن تبدأ المفاوضات، وقد عقد وزراء خارجية روسيا وأميركا اجتماعا في الرياض دون إشراك أوكرانيا والدول الأوروبية التي كانت تدعم أوكرانيا بالسلاح والمال بموازاة الولايات المتحدة أيام الرئيس بايدن، كما أبدت عدة دول أوروبية امتعاضها من تصرفات الرئيس الأميركي لدرجة أن الرئيس الفرنسي ماكرون أعاد طرح فكرته السابقة بتشكيل جيش أوروبي للخروج من تحت المظلة الأميركية.
3- موقف ترامب من قطاع غزة: سمع الجميع دعوات ترامب المتكررة لإخراج الفلسطينيين من غزة وحديثه عن إعادة إعمارها وعدم عودة الفلسطينيين إليها، ورأينا ردة الفعل العالمية الرافضة لهذه الخطة التى اعتُبرت بمثابة تطهير عرقي، حتى من أقرب الحلفاء للولايات المتحدة. وقد أدى هذا الموقف الأميركي الى رفض واضح من قبل جميع الدول العربية التي ستعقد قمة طارئة في الرابع من شهر مارس لإعلان موقف عربي قوي موحد ضد هذه الخطة، وتكون خطة ترامب هذه قد أثارت انتقاد ورفض من قبل جميع دول العالم باستثناء إسرائيل.
هذه هي باختصار أهم القرارت التي اتخذها ترامب والمواقف التي أعلنها في الشهر الأول من ولايته الثانية تحت شعار “لنجعل أميركا عظيمة من جديد” وأترك للقارئ الكريم استخلاص ما إذا كانت هذه المواقف والقرارات من شأنها أن تجعل أميركا عظيمة أم أنها تنقص من مصداقية ومكانة الولايات المتحدة في علاقاتها مع العالم.