بقلم: تيماء الجيوش
لا تستطيع إلا أن يغالبك الحزن وأنت تطالع وجوههن في وسائل الإعلام ، تتساءل عن أحلامهن، أرائهن و ماذا كنّ اليوم لو لم يتم قتلهن بهذه الوحشية و البشاعة؟ و الأهم لماذا كان قتلهن؟ أتحدث عن مجزرة مدرسة البوليتكنيك في مونتريال والذي بلغ عدد ضحاياها أربعة عشر امرأة في العام ١٩٨٩. معظمهن كن طالبات هندسة الميكانيك. و منهن من كنّ من يعملن في المدرسة.
اسمه مارك ليبنيه و عندما بدأ بارتكاب جريمته طالب الرجال بإخلاء القاعة و أبقى النساء صارخاً بأنه ضد النسوية ، على الرغم من أنهن طلبة مجرد طلبة في رحابٍ علمي يُفترض انه آمن. قتل منهن ستة ثم عاد ليتجول في الأروقة والقاعات موجهاً سلاحه نحو النساء على اختلاف صفتهن سواء كن طالبات ، موظفات، مدرسات ، بلغ مجموع ضحاياه ١٤ امرأة إلى جانب العديد من الجرحى . و بعد ذلك الجرم بدأ التحقيق ليتضح بأن مارك عُرف عنه انه معادٍ للنسويات و مهن النساء، و برأيه على النساء الالتزام بدورهن التقليدي و عدم تجاوزه لأخذ مهن الرجال ومنها العمل في جهاز الأمن والشرطة مثلاً.
وجدت أجهزة التحقيق في حوزته قائمة بأسماء تسعة عشر امرأة في كيبيك لقتلهن وهن من العاملات في الشأن العام والإعلام. منذ ذلك الحين تم توصيف جريمته على أنها إرهاب معادٍ للنساء Misogynist terrorism وهو تعريفاً و ترجمةً إرهاب ضد المرأة و الذي يكون دافعه معاقبة المرأة ، و هو في طبيعته شكل متطرف من أشكال الكراهية ، قاعدته التمييز ضد النوع و يحذوه الانتقام لتعزيز التفوق و امتثال المرأة له . هل نستطيع القول أن هناك عاملاً مشتركاً واضحاً و مباشراً بين جميع جرائم العنف ضد المرأة؟ على اختلاف رقعتها الجغرافية والمجتمعية؟ سواء في الغرب أو الشرق ؟ والإجابة هي بالتأكيد نستطيع الجزم بذلك سواء من حيث الوضوح أو كونه مباشراً و ذلك لأسباب عدة منها، أن علينا أن نُقرّ بأن هناك كراهية ضد المرأة أولاً ، و هي كراهية على درجة من الشّدة التي تبيح لمرتكبها أن يرتكب جرمه دون تردد ، ليس هذا وحسب بل الأكثر أهمية أن معاداة النسوية وكراهية النساء تجد بيئة داعمة لها على الصعيدين الاجتماعي والثقافي و القانوني كما هو الحال في القوانين التي لا زالت تمنح أسباباً مخففة هنا وأسباب تبرير هناك لجرائم الشرف و ذكره كمثال هنا لا يأتي عرضاً و بعيداً جغرافياً عما وقع في مونتريال، بل يأتي في سياق ان العنف ضد المرأة هو وباء قد نال من كل المجتمعات دون استثناء، ناهيك عن ان الحصول لهذا العنف على الدعم الاجتماعي والثقافي بات سلساً أكثر من ذي قبل.
فالمجموعات ذات الميول العنصرية تدعم كراهية المرأة و لها العديد من المشتركات فهي بالمجمل تعتمد على عقدة التفوق التي هي الأساس النوعي الأولي للكراهية. هي في حقيقة الأمر تغذي و بشكلٍ وافٍ و استثنائي العنف ضد المرأة قد لا يرد كثيراً في دراسة الأسباب والنتائج و عدد الضحايا لكنه موجود ولا يمكن تجاهله و الابتعاد عن دراسته لم يعد كافٍ القول أن هناك كراهية للمرأة و هناك عنف بل لا بد من تعريته ، أسبابه، العوامل التي تجمعه مع العنصرية و نقاط التقائهما. من ارتكب جريمة مدرسة البوليتكنيك في مونتريال مارك ليبينيه رأى أن هذا التخصص من حقه كرجل و ليس من حق النساء بل التخصص في الهندسة هو من حق الرجال. ترتب على هذه الجريمة أمور عدة، كان من نتائجها أن استجابت الهيئة التشريعية الكندية بإقرار قوانين أكثر صرامة للسيطرة على الأسلحة، واتخذ المسؤولون إجراءات أخرى لإنهاء العنف ضد المرأة. كما أدت المذبحة إلى تغييرات في السياسات في بروتوكولات خدمات الطوارئ الخاصة بإطلاق النار، بمعنى ان على الشرطة ان تتدخل فوراً دفعاً ومنعاً لتراكم الخساير و ربما الضحايا. فيما بعد عزى الكثيرون انخفاض نسبة الضحايا و الخسائر أثناء إطلاق النار إلى هذا التغيير في البروتوكولات. كان هذا الحادث هو الأكثر دموية و عنفاً خلال عقود ، ولا زالت كندا تُحيي ذكرى هانيك النساء كل عام.
مضت خمس وثلاثون عاماً ولم تغب ذكراهن ، يُحتفى بهن رسمياً ، أكاديمياً و مجتمعياً . في هذا العام ٢٠٢٤ تمّ عرض مسرحية عن مجزرة البوليتكنيك ، اعتمدت بشكلٍ رئيسي على شخصية مارك ليبنيه وتطرفه و عنفه و عنصريته من خلال ديالوغ له . على الصعيد القانوني تم التوقيع على عريضة من قبل نصف مليون فرد تطالب بتشديد الرقابة على الأسلحة. تم تنظيم ائتلاف للضغط من اجل تسجيل الأسلحة و تنظيمها و مراقبة ازديادها . تم تبني قانون الأسلحة النارية فباتت هناك صرامة اشد في السيطرة عليها. في العام ٢٠١٥ قدمت الحكومة الكندية الفيدرالية القانون رقم C-71 وهو باختصار أعاد وأكد على شرط هام يتعلق بتسجيل مبيعات الأسلحة النارية. ثم ما لبثت الحكومة وفي العام ٢٠٢٠ أن قامت بحظر ١٥٠٠ نموذج من أسلحة الحكومة العسكرية . لا شك أن المجتمعات قد اختلفت جذرياً في عدة مناح و بدرجات مختلفة عما كان عليه الحال في العقود الأخيرة من القرن العشرين ، لكن بقيت مسألة العنف ضد المرأة لم تنته بعد و مع أعداد ضحاياها يبقى العمل مستمراً لا يتوانى ولا ينكفأ و تبقى ذكرى ضحاياها في ذاكرتنا جميعاً مُحفزّاً لمزيد من العمل و المساواة في مجتمع سليم اياً كان هذا المجتمع شوقاً أم غرباً ، يُعتمدُ فيه على النساء والرجال في بناء السلام و مزيداً من الحضارة الإنسانية.
أسبوع سعيد لكم جميعاً.