بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
“بعد هجوم حركة حماس المفاجئ على إسرائيل في السابع من أوكتوبر من العام الماضي، تضامن العالم الغربي مع إسرائيل الى أقصى درجة، وتوافد قادة الدول الغربية تباعا على تل أبيب للتعبير عن تأييدهم الكامل ودعمهم التام للدولة العبرية، كما أن الرئيس الأميركي جو بايدن تجاوز كل خلافاته السابقة مع نتنياهو وسارع الى إسرائيل حيث عانق نتنياهو وأكد دعمه التام واللامحدود بالمال والسلاح لحرب إسرائيل على غزة، كما أنه وافق نتنياهو على هدف “القضاء على حماس” وتحرير الرهائن، وكل ذلك في إطار “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.
ولكن بعد أسابيع من الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة وبعد أن بدأت تظهر أعداد الضحايا الفلسطينيين المدنيين وخاصة من النساء والأطفال، بدأ الرئيس بايدن بإسداء النصائح للإسرائيليين بضرورة حماية المدنيين وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية والمواد الغذائية، ثم تحولت النصائح الى أمنيات فإلى مواقف، ونظرا لعدم تجاوب نتنياهو على الإطلاق مع بايدن، تطورت مواقف ونصائح الإدارة الأميركية الى مطالبة إسرائيل مباشرة باتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية المدنيين.
ولكن في الوقت الذي كان فيه الرئيس بايدن يطالب إسرائيل بحماية المدنيين وفتح المعابر لتأمين دخول المواد الغذائية إليهم، لم يتوقف قط عن إرسال المزيد من شحنات الأسلحة والمساعدات المالية لإسرائيل، كما أنه كان يرفض أي مشروع لوقف إطلاق النار إذ استعملت المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة حق النقض ثلاث مرات لمنع صدور قرار من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، واستمر في تأييده المطلق لحرب إسرائيل على غزة في سبيل “القضاء على حماس”.
هذا التناقض الفاضح في موقف الرئيس بايدن أدى الى انتقادات متزايدة من قبل عدد غير قليل من الدول للإزدواجية الواضحة في السياسة الأميركية، كما برزت معارضة قوية لبايدن من قبل الجاليات العربية والإسلامية داخل الولايات المتحدة، وكذلك من العناصر الشبابية والأفارقة الأميركيين، علما أن البلاد دخلت في خضم الحملة الإنتخابية الرئاسية والتشريعية للإنتخابات التي ستجري في الخامس من نوفمبر القادم، وحظوظ بايدن بالفوز على خصمه الرئيس السابق دونالد ترامب ليست مضمونة.
وفي هذه الأجواء السياسية غير المؤاتية للرئيس بايدن، بدأت أيضا تظهر أصوات من شخصيات يهودية أميركية تنتقد نتنياهو بقوة على ما أصبح يشاع عن “حرب الإبادة والتطهير العنصري” التي يقودها ضد الفلسطينيين عبر تدمير المنازل والمدارس والمستشفيات وقتل آلاف الأطفال والنساء وتجويع السكان وتهجيرهم نحو جنوب القطاع، وقد طالت هذه الإنتقادات الرئيس بايدن بصورة مباشرة نتيجة لتأييده غير المحدود للحرب الإسرائيلية الوحشية على الفلسطينيين في غزة.
من أهم الشخصيات اليهودية الأميركية التي اتخذت مواقف متشددة ضد نتنياهو وبايدن عضو مجلس الشيوخ بيرني ساندرس الذي كان مرشحا للرئاسة في انتخابات عام 2020، وكذلك زعيم الأكثرية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر الذي يمثل ولاية نيويورك التي فيها 20% من اليهود الأميركيين وله تاريخ طويل من التأييد لإسرائيل، وريتشارد هاس الذي لعب دورا بارزا في عهد الرئيس بوش وهو الآن المدير لمؤسسة أبحاث لها وجود قوي على الساحة السياسية الأميركية، وسفراء أميركيين سابقين في إسرائيل وإعلاميين، هذا مع العلم أن الرئيس بايدن الكاثوليكي يقول عن نفسه أنه صهيوني وهو معروف بتأييده لإسرائيل طوال حياته السياسية الممتدة على أكثر من نصف قرن، وهو القائل بأن الولايات المتحدة هي بحاجة لإسرائيل أكثر مما هذه الأخيرة هي بحاجة الى الولايات المتحدة.
وعلى اثر تطويق مدينة رفح عسكريا من قبل الجيش الإسرائيلي بعد تهجير أكثر من مليون فلسطيني اليها من شمالي ووسط قطاع غزة ومع تهديدات نتنياهو المتتالية باجتياح المدينة، ازدادت نسبة انتقادات بايدن لنتنياهو ولطريقة إدارته الحرب دون أخذ سلامة المدنيين بالإعتبار، كما أن نائبة الرئيس كامالا هاريس لمحت أثناء مؤتمر صحافي الى تداعيات في العلاقات الأميركية-الإسرائيلية في حال حصول الإجتياح. يضاف الى هذه الضغوط الأميركية على نتنياهو قرار إدارة بايدن عدم استعمال حق النقض في مجلس الأمن لتمكين هذا الأخير من تبني قرار لوقف إطلاق النار في غزة رغم – أو ربما بسبب – تهديد نتنياهو للولايات المتحدة بضرورة استعمال الفيتو.
ولكن ما جعل بايدن يغضب كثيرا من نتنياهو كان استهداف وقتل في شمال غزة سبعة مساعدين يعملون في المؤسسة الإنسانية “المطبخ المركزي العالمي” التي تخص الطباخ العالمي الشهير خوسيه أندريس المقرب من البيت الأبيض ومن الرئيس بايدن بالذات، حيث كانوا ينقلون مواد غذائية مقدمة من المؤسسة لمساعدة سكان غزة الذين قدمت لهم هذه المؤسسة حتى الآن 42 مليون وجبة طعام، فاتصل بايدن هاتفيا بنتنياهو بعد انقطاع لمدة أسابيع في الإتصالات المباشرة بينهما، ولامه على هذا العمل غير المقبول وطالبه بإجراء تحقيق سريع وشفاف في هذه المسألة وبفتح المعابر لإدخال المواد الغذائية الى السكان في غزة مشددا على ضرورة حماية المساعدين في مهامهم الإنسانية ومؤكدا ان الولايات المتحدة ستحدد مستقبل مقاربتها لهذه الحرب وفق المواقف الإسرائيلية من هذه الأمور الإنسانية التي تعلق عليها الإدارة الأميركية أهمية كبرى.
لا بد من التوضيح هنا أن بايدن يميز بين نتنياهو وإسرائيل، أي أن خلافه مع نتنياهو لا يعني إطلاقا ابتعاده عن إسرائيل، تماما مثلما فعل الرئيس الأسبق باراك أوباما في أواخر عام 2016 قبيل نهاية عهده عندما امتنع عن استعمال حق النقض في مجلس الأمن وسمح بتبني قرار يدين الإستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولكنه كان قبل ذلك بشهرين قرر تخصيص إسرائيل بمساعدة إضافية مستقلة عن جميع المساعدات الأخرى بقيمة 38 مليار دولار لمدة عشر سنوات.
ما يفعله الرئيس بايدن ودون نتيجة إيجابية له حتى الآن هو محاولة إرضاء اللوبي الإسرائيلي القوي جدا في مرحلة الإنتخابات إذ يساهم هذا اللوبي مساهمة مالية كبرى في الحملات الإنتخابية لمؤيدي إسرائيل ولأخصام المرشحين الذين لا يؤيدون إسرائيل بما فيه الكفاية. يحاول بايدن من جهة إرضاء اللوبي عبر إعلان تأييده التام لإسرائيل والإستمرار بتزويدها بالأسلحة والمال، ويحاول من جهة ثانية إرضاء الجاليات العربية والإسلامية والعناصر الشبابية في الحزب الديمقراطي عبر انتقاد نتنياهو والمطالبة، وإن دون جدوى، بفتح المعابر والسماح بإدخال المساعدات الإنسانية الى قطاع غزة والكلام عن حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية.
نتيجة لهذين الموقفين المتضاربين، تزداد خسارة بايدن في استطلاعات الرأي إذ أنه فقد مصداقيته مع كل من الفريقين، لدرجة أن أحد المعلقين قال أن بايدن يتحدث من طرفي فمه. ولكن المراقبين يتساءلون إن كان نتنياهو سيتجاوب مع مطالب بايدن أم انه سيستمر في تهديداته باجتياح رفح بمعزل عن رفض الولايات المتحدة لمثل هذا العمل.
حتى الآن، يبدو أن نتنياهو يحاول أن يراوغ عبر التصريح بأن مقتل المساعدين السبعة حصل نتيجة خطا، وعبر إظهار بعض التجاوب مع ما طالبه به الرئيس الأميركي إذ أنه اعلن عن فتح معبر “بن ياحون” بين شمالي قطاع غزة واسرائيل، ولكن إدارة بايدن تعلم جيدا أن هذا المعبر غير صالح بسبب ما لحق بالمنطقة من دمار وهذا ما يؤدي الى شبه استحالة مرور الشاحنات والسيارات لنقل المساعدات الإنسانية الى داخل القطاع، وهي حتى الآن لم تعلق على مواقف نتنياهو بل هي بانتظار اتخاذه المزيد من القرارات الآيلة الى حماية المدنيين وإدخال المزيد من المساعدات الإنسانية، كما قد يكون إعلان إنسحاب بعض القوات الإسرائيلية من جنوب غزة من شأنه ترويض الرئيس بايدن في حال كان هذا الإنسحاب يتم فعلا على الأرض مثلما تعلنه السلطات العسكرية الإسرائيلية.
منذ فترة، يحاول نتنياهو توريط الولايات المتحدة وخاصة الرئيس بايدن بالحرب في المنطقة وقد يكون قصف القنصلية الإيرانية في دمشق وقتل سبعة إيرانيين فيها قد تم لهذه الغاية إذ سارعت الإدارة الأميركية الى نفي علمها المسبق بهذه العملية تجنبا لحصول أية عمليات إيرانية ضد الولايات المتحدة واضطرار هذه الأخيرة للرد عليها، كما قد يكون الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب القطاع، إن تم فعلا، مقدمة لنقل الجنود شمالا الى الحدود مع لبنان لتنفيذ تهديدات إسرائيلية شبه يومية بالقيام بعمليات عسكرية مدمرة في لبنان، من جهة لإطالة أمد الحرب كي يستمر نتنياهو في الحكم، ومن جهة ثانية لتوريط الولايات المتحدة في حرب في المنطقة مع ما قد يشكل ذلك من احتمالات لإضعاف بايدن أكثر وأكثر ومساعدة حليف نتنياهو دونالد ترامب للفوز في الإنتخابات الرئاسية الأميركية بعد حوالى سبعة أشهر من الآن.
ولكن، على أرض الواقع، لم يرضخ حتى الآن نتنياهو بالفعل لتحذيرات الرئيس الأميركي بل قابلها بتحديات جديدة إذ أعلن مؤخرا نيته الأكيدة باجتياح رفح، وفي ذلك تحدٍ واضح ليس فقط للإدارة الأميركية، بل أيضا لبيان مشترك صادرعن الرئيس الفرنسي والرئيس المصري والملك الأردني يطالب بتنفيذ فوري لقرار مجلس الأمن 2728 ويعارض صراحة اجتياح رفح.