بقلم: عبدالله الديك
كنت صغيرًا .. في كل تاكسي كان الشيخ كشك حاضرًا بصوته الراعد الزاعق الغاضب!
في كل مقهىً… في كل محل عصير قصب، في كل أوتوبيس وميكروباس محتشد؛ كان الشيخ كشك حاضرًا بصوته الراعد الزاعق الغاضب!
يحاصرك الهدير والوعيد وتنويع طبقات الصوت في كل شارع، في كل ناصية، أينما وليت وجهك فثمة غضب يتفجر من أجهزة تسجيل يابانية وغربية، من ميكروفونات صنعتها الصين، وجدت شيخًا يستخدمها كمنصة كراهية. في كل شرفة من شرفات وطن متعطش للخدر والغيبوبة، وانتظار حلول من موتى المقابر لبؤسه وانسحاقه الحضاري والعلمي والعقلي.
في يوم دراسي مشحون بالحرام الذي بات يطاردنا، كان مدرس اللغة العربية يتقمص كشك، فراح يشرح لنا الدروس مستعيرًا زمجرة حشرجات، وتون صوته، وسبابه، ونكته السمجة، المدعمة بالشتائم. تنحيت كطفل عن كلمة، وحكمة الصباح اليومية في الإذاعة المدرسية، لأن طفلًا نابغة يقلد كشك رصوا على ذاكرته البيضاء بلاغة أكثر، سيفتتح اليوم الدراسي بما يحفظ من قرآن وأحاديث ومرويات. دخلت مُعلمة الإنجليزي ذات الشعر الأسود المنسدل على أكتافها بخمار بُني ووجه شاحب يخلو لأول مرة من روحها الودودة المرحة إلى الفصل وسط دهشتنا وكأنها عائدة من جلسة جهاز غسيل العقل.
نجم المرحلة شيخ شتام بالدين والمرويات، كفيف يتخفى خلف عاهته أصبح أيقونة المواصلات، والمقاهي، والمصالح لشعب كسلان عقليًا يسطله ما يُغيِّبه!
عدت إلى بيتنا وأنا حزين كطفل أن المطرب الذي أعشق صوته عبد الحليم حافظ؛ مصيره النار، وبئس المصير، بصرخة راعدة من كشك في جماهيره المغيبة بالأفيون الرجعي، وجهالات بدو القرن السابع الميلادي.
وبعقلي الطفل تساءلت:
لماذا يذهب إنسان كعبد الحليم حافظ إلى النار؟
مريض … لم يحرض ، لم يفجر، لم يقتل، لم يرتش أو يسرق، أو يسب، لم يتمنطق بحزام ناسف ليبيد أبرياء.
شاب ريفي بسيط هزيل البنية، يشبهنا كل جنايته التحيز للجمال، والقيمة، والمشاعر… كل جنايته أنه خاطب الوجدان البائس المتصحر في هذه الجغرافيا الغاضبة، كل جنايته أنه مارس إنسانيته بموهبته.
كنت كلما عرض فيلم، لا أنظر إلى عبد الحليم إلا مشفقًا كونه في نار جهنم. أحزن له وعليه ولم أكن أدري حينها، أني كطفل كنت أحزن على نعمة وجودي، على براءتي وحُسن ظني بالوجود. صادر الشيخ الميكروفوني الغاضب الناقم وجودنا الذي لا يتفق مع المازورة الرجعية التي تحتل رأسه، شيخ ميكروفوني يتخذ بجبروت من عاهته إسنادًا لوصم وسب الناس، شيخ صنيعة هوس وثقافة ونظام تعليم ديني رجعي دوجمائي كاره لنعمة الحياة. شيخ غاضب يسر له العلم والعقل والإبداع؛ ميكروفون وشريط كاسيت، وأجهزة بث غربية؛ كي يلعن من خلالها نعمة الوجود، والشرق والغرب معًا.
في ذلك الزمن منع التلفزيون الحكومي المصري الذي كان يُسمي نفسه “التلفزيون العربي” إذاعة قصيدة “لست قلبي” لعبد الحليم بسبب مقطع: “قدر أحمق الخطى سحقت هامتي خطاه!”..
ومُنعت أغنية “على حسب وداد قلبي” بسبب: “لا ها أسلم بالمكتوب ولا ها أرضى أبات مغلوب”،
توقفت برامج فن الباليه، والرقص الشعبي، والمسرح العالمي، والقصة القصيرة، وصوت الموسيقى، وشُوهت الأفلام بالقطع، والقص، لعدم جرح التدين المهووس للشعب الجديد… انفجر في البيوت شلال مسلسلات دينية داعشية بلهاء تسطح العقل، وتكرس المزيد من التغييب، وتحقر من تاريخ المصريين باعتماد سردية إبراهيمية سقيمة خرافية.
ظهرت على السطح مصطلحات ديوث، ومتبرجة، وآثم ويأثم، وعاصي، ورويبضة، ولعن وملعون وغيرها لإرهاب أي رجل ما زال يرى المرأة كيانا فاعلًا جديرًا بالاحترام، وليست عورة أو وعاء اشتهاء رخيص، لشبق وفحولة ذكورية الأجلاف الصحراويين، أشرق عصر إسلام النايلون البريوني، وستر عار مشاركة الإناث لذكور القبيلة نعمة الحياة.
خُتمت الوجوه بالفطر الجلدي الأسود كعلامة وشارة للقادمين الجُدد، وتحولت المصالح الحكومية إلى زوايا، وحلقات طقوسية على حساب العمل، وتم استبعاد القانوني والأخلاقي والإنساني، لصالح مهوسة الحرام والحلال وبدأ عصر الهوس بالفتاوى في كل شيء.
ركبت البنوك موجة الهوس القادم في براميل النفط، وظهرت موضة بنوك المعاملات الإسلامية، وخدعة المرابحة والمضاربة والمشاركة والاستصناع والإجارة والصكوك وكل ألاعيب زيف ما يسمى بالصيرفة الإسلامية، اسثمارًا لتوحش الدروشة والبهللة الطافحة في العقول. صعد نجم لحى توظيف الأموال وتحالفوا مع المشايخ وأولهم الشعراوي، ليمهدوا لهم الأرض للانقضاض على غنيمة مدخرات العائدين من بلاد الجاز والحجاز…تمددت الكروش في دشداشات بيضاء، ومعها تمدد وجع وطن زراعي حضاري عتيد تتداعى قواه الحضارية.
أوقفت الأهرام سلسلة حديث مع الله لتوفيق الحكيم بعد اعتراض الشعراوي ودعوته لأن يتوب الحكيم أو يناظره، وأجبر الهمج يوسف إدريس على الاعتذار لشعراويهم بعد انتقاده لمنطق الشعراوي المراوغ باللغة العربية، وفساد استدلاله الذي يدير رؤوس مستمعيه دون أن يمحصوها أو يفهموها..الراسبوتينيتة في طبعتها الريفية ترمي بتبسط العامية الفرضيات غير الصحيحة ويكمل الشعراوي بالفصحى استنتاجات واهية متهافتة تدير رؤوس المشدوهين خدرًا، فتعلو الآهات والحمدلات والسبحلات لجمهور مُغيب قرر منذ البدء ألا يفهم، قرر أن يتسلطن بالخدر فقط..
وللحديث بقية…