بقلم: د. حسين عبد البصير
اللغة المصرية القديمة لغة ميتة الآن. وندرس تلك اللغة؛ كي نقرأ ونفهم نصوص المصريين القدماء. ويختلف نظام الكتابة المصرية القديمة عن نظام الكتابة في عصرنا الحالي؛ لذا علينا أن نفهم جيدًا نظام ترتيب وضع الكلمات في الجملة.
ومرت اللغة المصرية القديمة عبر تاريخها الطويل بمراحل مختلفة. ويقسمها العلماء عادة إلى خمس مراحل أساسية:
- المصري القديم: يعد أقدم مرحلة معروفة من اللغة ويرجع إلى حوالي 2600 إلى 2100 قبل الميلاد.
- المصري الوسيط: ويطلق عليه أحيانا المصري الكلاسيكي ومرتبط بالمصري القديم وظهر حوالي 2100 إلى حوالي 1600 قبل الميلاد، غير أنه استمر كلغة طوال التاريخ المصري القديم.
- المصري المتأخر: أخذ مكانة المصري الوسيط بعد عام 1600 قبل الميلاد. ويختلف عن المراحل السابقة خصوصا في القواعد.
- الديموطي: تطور من المصري المتأخر وظهر للمرة الأولى نحو عام 650 قبل الميلاد واستمر إلى القرن الخامس الميلادي.
- القبطي: هو المرحلة المتأخرة من المصري القديم ومرتبط بالديموطي وظهر في نهاية القرن الأول الميلادي واستخدم لألف عام. ويرجع أقدم النصوص القبطية المكتوبة بواسطة المصريين إلى الألف الحادي عشر الميلادي.
أسماء مصر الخالدة
أسماء مصر من الأشياء المميزة التي مرت بتطورات عديدة إلى أن وصلت إلى اسمها الحالي مصر. ويعد من الأمور المثيرة للتساؤل اختلاف تسمية مصر في اللغات الغربية. واسم مصر، على عكس كل بلاد العالم، غير مشتق من اسمها العربي الحالي، فهي مثلاً في اللغة الإنجليزية تُنطق «إيجيبت». وفي معظم اللغات الغربية جاء اسم مصر من لفظ «إيجيبت»، وليس من اسم «مصر» الحالي. فما السر وراء هذه التسمية ومن أين جاءت؟
حملت الكتابة المصرية القديمة لمصر القديمة أكثر من اسم. وكان من ضمنها اسم «كيمت»، ومعناها «السمراء»، أو «الأرض السمراء»؛ وذلك في إشارة إلى تربة مصر السمراء الخصبة في مقابل الصحراء القاحلة، والتي أطلق عليها المصريون القدماء اسم «دِشر» بمعنى «الأحمر» أو «الأرض الحمراء» في إشارة إلى افتقارها إلى مقومات الخصوبة والزراعة؛ وذلك لتمييزها عن دلتا النيل الخصبة، وأيضًا وادي النيل، ذلك الشريط الأسمر الضيق الموجود في وادي النيل. وأطلق أيضًا المصريون القدماء على بلادهم اسم «كيمت تا مِري»، أي «كيمت السمراء الأرض المحبوبة»، أو فقط «تا ميري»، بمعنى «الأرض المحبوبة».
«إيجيبت»
يعود أصل كلمة «إيجيبت» إلى تعبير من ضمن التعبيرات التي كانت تُطلق على مصر في الكتابة المصرية القديمة. كان تعبير «حوت كا بتاح»، ويعني «مقر قرين الإله بتاح في عصر الدولة الحديثة، من ضمن التسميات لواحد من أشهر معابد الإله الخالق «بتاح»، رب مدينة «منف»، العاصمة الأزلية لمصر القديمة، وهي قرية ميت رهينة، أو طريق الأسود، التابع لمركز البدرشين في محافظة الجيزة الحالية. وأغلب الظن أن المصريين القدماء قد استخدموا ذلك الاسم الخاص بأهم معبد في العاصمة المصرية القديمة آنذاك، وأطلقوه على مصر ككل.
وبمرور الزمن تحور التعبير. وظهر اسم مصر تحت اسم «آيجوبتس» في ملحمة الشاعر الإغريقي الأشهر، «هوميروس» المعروفة باسم «الأوديسية»، والتي أُلفت في نهاية القرن الثامن قبل الميلاد، في منطقة أيونيا اليونانية الساحلية، في بلاد الأناضول، والتي تركز على البطل الإغريقي، أوديسيوس، الذي كان معروفًا باسم «أوليس» في أساطير الرومان، وكان ملك مدينة إيثاكا، وتركز أيضًا على رحلته لبلاده بعد سقوط طروادة. وما يهمنا هنا أن ذلك يعني أن اسم مصر كان معروفًا عند الإغريق القدماء بذلك على الشكل.
«حُوت كَا بِتاح»
عند تفحص ذلك الاسم، نجد أنه مشتق من التعبير المصري القديم «حُوت كَا بِتاح». وعندما دخل اليونانيون مصر القديمة وجدوا صعوبة كبيرة للغاية في نطق حروف معينة في ذلك التعبير. وكان من ضمنها حرف «الحاء»، الذي كان بداية ونهاية ذلك التعبير الدال على مصر القديمة، فقاموا باستبدال حرف «الكاف» بحرف «الجيم». ومن ثم تحول التعبير إلى «حوت آيجوبت».
من المعروف أن الإغريق القدماء كانوا يضيفون حرف «السين» مسبوقًا بحرف من حروف الحركة في نهاية الكلام؛ لذا أصبح الاسم النهائي لمصر القديمة عند الإغريق القدماء هو «آيجوبتس»، كما ورد في ملحمة «الأوديسية» لشاعر الإغريق الأشهر «هوميروس». ومن خلال ذلك النطق الإغريق القديم، دخل اسم مصر إلى اللغات الأوروبية الحديثة؛ فصار اسم مصر «إيجيبت» في اللغة الإنجليزية وفي اللغة الفرنسية، و»أُيجبتن» في اللغة الألمانية، و»إيجتو» في اللغة الإيطالية، و»إيخبتو» في اللغة الإسبانية، وهكذا في غيرها.
العرب والقبطي
من كلمة «آيجوبتس»، جاءت تسمية «آيجوبتي»، أي «مصري» أو «المواطن الذي يعيش في «آيجوبتس». ولما دخل العرب المسلمون الفاتحون أرض مصر على يديَّ القائد الفاتح العربي الشهير سيدنا عمرو بن العاص في حوالي عام 640 ميلادية، وجد العرب صعوبة بالغة في نطق «آيجوبتي»، فقاموا بنطقها على ذلك النحو «آيقوبطي» أو «قبطي». ومما يهمنا في هذا الشأن أن كلمة «قبطي» في التاريخ القديم تعني «المواطن المصري»؛ وذلك بغض النظر عن ديانته سواء أكان قبطيًا مسلمًا، أو قبطيًا مسيحيًا، أو غير ذلك، غير أن الشيء المؤكد أنه قبطي أي «مصري» من مصر ويعيش على أرض مصر الخالدة. ثم تطور الأمر وصار البعض يستخدم ككلمة أو وصف «قبطي» عند الإشارة إلى مسيحيي مصر فقط؛ وذلك لتمييزهم عن المسيحيين في أي مكان آخر، على غير حقيقة الاسم الأصلي ودلالته.
أصل اسم «مصر»
أما عن كلمة «مصر» الحديثة في اللغة العربية، وفي الوقت الحالي، فهناك من العلماء من يرى أنها مشتقة من الكلمة المصرية القديمة، «مِدجِر»، والتي تنطق أيضًا «مِدشِر»، وتعني «الحد» أو «الحاجز»، أو قد تعني «المُحصَّن»، وبما أن مصر محصنة بالطبيعة، وبحفظ الله سبحانه وتعالي، فسموها بذلك الاسم، غير ذلك الرأي قد يكون بعيدًا عن أصل اسم مصر. وهناك من العلماء من يرى أن اسم مصر الحالي في اللغة العربية، «مصر»، جاء من «مصر» من الأمصار، أي بلد من البلاد، وكما ورد اسم مصر في القرآن الكريم، فإنه «مصر» من الأمصار، أو بلد من البلدان أو قطر من الأقطار.
هذا هو التطور المتعدد لاسم مصر منذ أيام المصريين القدماء إلى الآن.
كان للطب والأطباء مكانة سامية ومقدسة في مصر القديمة. ويعد كبير أطباء الأسنان الطبيب الملكي الأشهر، «حسي رع»، من أهم الموظفين الكبار وأمهر الأطباء في القصر الملكي في عهد الملك الأسطوري زوسر العظيم، صاحب هرم سقارة المدرج، أول هرم في تاريخ العالم، من ملوك عصر الأسرة الثالثة في عصر الدولة القديمة. ويعني اسم حسي رع «الممدوح بواسطة رع». وكان وزيرًا في عهد ذلك الملك المؤسس لفكر وبناء الأهرامات مع وزيره المهندس العبقري إيمحتب.
اكتشف الفرنسي أوجست مارييت مقبرة حسي رع في عام 1866 ميلادية. وأتم التنقيب عنها جيمس كويبل في عام 1912 ميلادية. ووجدنا في تلك المقبرة بعض اللوحات الخشبية الجميلة المحفورة بإتقان من بداية عصر الدولة القديمة وعصر الأهرامات. وتدل قطع الأثاث الجميلة المكتشفة في مقبرته على أن حسي رع كان شخصية كبيرة، وذا مرتبة عالية، وكان يحظى بثراء كبير، وكان ذلك الموظف الكبير أكثر قربًا من الملك الأسطوري زوسر العظيم.
لوحات مقبرة حسي رع بديعة التنفيذ ومصنوعة من خشب الأرز المستورد من لبنان. ولم تعرف مصر القديمة زراعة خشب الأرز؛ لذا كان يتم استيراده من لبنان. ويدل ذلك على أنه كانت هناك علاقات تجارية قوية بين مصر ومدن الساحل الفينيقي على ساحل البحر المتوسط، وتحديدًا مدينة جبيل أو ببلوس. وقد حصل حسي رع على ذلك الخشب المهم دون شك كمكرمة من ملكه المفدى، الملك الأسطوري زوسر العظيم؛ لأن استيراد تلك الأخشاب الثمينة كان امتياز ملكًا بحتًا؛ فأنعم الملك زوسر ومنح موظفه الكبير تلك الأخشاب تقديرًا منه له ولمكانته لديه في القصر الملكي؛ إذ كان طبيبه الملكي الخاص.
لنا تكملة في العدد القادم