بقلم: ذ. عبد الرحيم عازم
المشرف على مشروع تحدي القراءة العربي
تعيش ثانوية مولاي إدريس التأهيلية بمدينة فاس، العاصمة العلمية والروحية للمملكة المغربية، حركة ثقافية استثنائية، وذلك في إطار استعداداتها للمشاركة في إقصائيات مشروع “تحدي القراءة العربي” الذي يعد علامة ثقافية فارقة أطلقها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، بهدف تعزيز عادة القراءة وترسيخها كممارسة يومية ضمن نسق ثقافي عربي ممتد في الزمن، فضلا عن الارتقاء بالمستوى الفكري والمعرفي والمهاري للتلاميذ، وهو المشروع الرائد الذي أثمر جيلا من القراء العرب؛ يملكون مهارات عالية في القراءة والفهم والتحليل بما يُبشر بمستقبل واعد للأمة العربية والإسلامية.
لقد انخرطت ثانوية مولاي ادريس التأهيلية العريقة بكل أطرها الإدارية والتربوية وجمعية الآباء وجمعية القدماء وشركاء المؤسسة على اختلاف مشاربهم في إنجاح كل المحطات الأساسية عبر أنشطة منتقاة داعمة للمشروع سواء على مستوى التخطيط أو الرؤية أو تنفيذ البرامج في آجالها المحددة، وذلك في خدمة أهداف مشروع تحدي القراءة العربي.
وهكذا، عبأت الثانوية كل طاقاتها البشرية و اللوجيستيكية بدقة وتفان منقطع النظير، وسهرت على تنظيم حلقات للقراءة الجماعية وفق برنامج دقيق بشكل يسمح للمتعلمين بتبادل الأفكار الإبداعية وانتاج الرؤى الأصيلة، ومن ثم تأسيس المواقف الفكرية الحرة والمبتكرة حول الكتب التي اختاروا قراءتها والتي تتابين فيما بينها شكلا ومضمونا، وذلك حسب ميولات التلاميذ وتعبيراً عن فضولهم المعرفي ورغبتهم في الاكتشاف وتطوير مؤهلاتهم القرائية ورصيدهم العلمي والأدبي.
كما نظمت الثانوية سلسلة من المسابقات القرائية و الثقافية الهادفة في مجالات معرفية متنوعة بهدف التمرس أولا؛ أي اكتساب مهارة القراءة، ثم ثانيا؛ ممارسة عمليات الفهم المستنير والتحليل الموضوعي والمناقشة العقلانية والنقد الجاد للمحتوى الذي تم استيعابه، وذلك في أفق ترسيخ عادة القراءة لتتحول إلى سلوك يومي.
أما بخصوص الورشات التدريبية العملية فقد شملت تقنيات القراءة الفعالة واستراتيجيات العمل بالخطاطات الذهنية سعيا لتملك المقروء بشكل واع مع ضمان حضور مضامينه ومعانيه في الذاكرة بشكل مستدام.
ولتحفيز التلاميذ على القراءة الملتزمة وانتقاء كتبهم بعناية ووعي فقد استضافت المؤسسة كُتاباً متميزين حملوا مشعل القراءة والكتابة، بما ألّفوا من كتب وأبدعوا من رؤى ملهمة وفريدة، ومن هؤلاء الكُتاب يأتي الأكاديمي المغربي الدكتور خالد التوزاني أستاذ الأدب المغربي والأندلسي بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس، حيث كان لتلاميذ المؤسسة لقاءً مع هذا الكاتب في رحلته القرائية وكيف استطاع الارتقاء بمهارة الكتابة من خلال اختيار الكتب وكيفية التعامل المنهجي معها بغية الاستفادة القصوى منها معرفياً ومنهجياً، فكان خير جليس و أسمى محاور وأرقى مؤطر، إضافة إلى حضور مثقفين مرموقين وخبراء أكفاء وشخصيات لامعة لتبادل الخبرات و بعث الأمل في نفوس القراء الشباب المشاركين في التظاهرات الثقافية الوطنية والدولية.
لقد كان التحدي الأكبر يتمثل في ضمان مشاركة واسعة ودائمة في البرنامج السنوي المسطر تبعا لرؤية نادي تحدي القراءة العربي ورسالته التربوية السامية وأفقه الحضاري المستنير، ومن أجل تحقيق هذا الهدف النبيل بذلت إدارة المؤسسة وأطرها التربوية، بإشراف السيد المدير أنس الخلفي والأستاذ عبدالرحيم عازم المشرف على المشروع وأعضاء النادي الذين تم انتقاؤهم بعناية، مجهودات استثنائية على صعيد التحسيس بأهمية القراءة المتنوعة والعابرة للمجالات مع إبراز أهميتها على مستوى تطوير شخصية المتعلم نفسيا وفكريا وسلوكيا ومنهجياً وعلى تقدم مسيرته الدراسية والانسانية بشكل عام، أي وفق رؤية شمولية تأخذ بعين الاعتبار مجمل مكونات الشخصية.
كما سهر الفريق التربوي على تنظيم لقاءات أيام ثقافية وفنية غنية ومتنوعة مع تقديم جوائز تحفيزية وشواهد تقديرية للتلاميذ المشاركين في كل الأصناف الثقافية والفكرية والترفيهية، وذلك اعترافاً بجهودهم.
ومن أجل ضمان استمرارية المشروع فقد وفرت الثانوية فضاءات ملائمة للقراءة داخل المؤسسة، حيث قامت بإعادة تأهيل المكتبة المدرسية وتجهيزها بشكل عصري فضلا عن إغنائها بمجموعة متنوعة من الكتب وترقيمها إلكترونيا وفق نظام جون ديوي الدولي بمساعدة مقاولة خاصة في هذا المجال.
ولم تقتصر المجهودات داخل الفضاء المدرسي بل استطاعت الثانوية إشراك الأسر في عملية التحسيس لتحفيز أبنائهم على القراءة عبر لقاءات منظمة في الزمان والمكان وبأهداف مسطرة ومحتوى هادف بغية الوصول إلى أعلى مستوى من الوعي بأهمية القراءة.
لقد أسفرت الجهود التي بذلها كافة المتدخلين عن نتائج مميزة، تمثلت في تطور ملحوظ على مستوى الأداء الدراسي للتلاميذ، إلى جانب تنوع وغنى الألقاب الثقافية والقرائية التي حققوها، مما يعكس الأثر الإيجابي العميق لهذا المشروع في تعزيز التحصيل المعرفي وتنمية المهارات الثقافي، وخير دليل على ذلك التحول الفعلي والملموس في حياة التلاميذ والمحيط السوسيوثقافي للمؤسسة؛ فقد نمت المهارات اللغوية واتسعت المدارك الفكرية للتلاميذ، وتغيّر السلوك نحو الأفضل.
كما تعززت الثقة بالنفس وزاد منسوب التقدير الايجابي للذات من خلال الانخراط الإيجابي في الفعاليات الثقافية والمشاركة في المسابقات الوطنية والدولية والإقبال الحماسي على كل منافسة دون أي إاحساس بنقص أو دونية أو تردد.
والنتيجة، أن الوعي الثقافي داخل المؤسسة تعمق وارتقى الى مستويات مشرفة جداً، وسادت اتجاهات إيجابًية بين التلاميذ ومحيطهم الاجتماعي والثقافي، الشيء الذي خلق أجواء من التعليم الجيد.
إن مشروع تحدي القراءة العربي بثانوية مولاي إدريس العريقة قد تجاوز عتبة المنافسة، وأضحى لحظة وجودية تسهم في توسيع الأفق الفكري والثقافي للتلميذ الإنسان، وتعزّز قدرته على تفهم الغير المختلف من خلال تمثل التجارب الإنسانية والتفاعل مع أفكار جديدة، وقيم مغايرة، وتجارب حياتية مختلفة. كل ذلك سيؤسس حتما لبناء عالم إنساني تسوده القيم الثقافية الراقية وينتصر فيه الانسان الكوني.
إن الإرادة الراسخة لدى إدارة المؤسسة والأطر التربوية والتلاميذ والشركاء انعكس بشكل إيجابي واضح على سيرورة المشروع القرائي وأسهم في تكريس محبة الحكمة في أفق جعل القراءة قاطرة جوهرية لتقدم المجتمع ورقيه الحضاري.