بقلم: بشــير القــزّي
كنت حديث العهد في مدينة مونتريال عندما دعاني مع عائلتي أحد الأصدقاء الى حفلِ مشاوٍ أقامه حول مسبح منزله فى أِحدى الأحياء الراقية من المدينة. كانت الطريق المؤدية الى المنزل تزينها أشجار كبيرة مصطفّة على طرفي الشارع وكانت تخفي بأغصانها بعضاً من معالم المساكن الفخمة التي كانت تتراءى لنا عبر زجاج السيارة!
كنت أقود “بلايموث” أمريكيّة كانت ما تزال تحمل لوحة ولاية “فلوريدا” حيث قمت بالاستحصال عليها من نحو سنة خلت. وأِن لم تكن جديدة الاّ انها كانت مريحة وتفي الحاجة. كان لونها أزرقَ معدنيّاً فاتحاً الاّ انه بهت مع الزمن تحت وطأة الشمس! أما فرشُ مقاعدها فكان أزرقَ يتماشى مع الطلاء الخارجي وكان كلٌّ من المقعدين الأمامي والخلفي يتّسع لثلاثة ركاب!
ما ان وصلنا الى جوار المنزل المقصود حتى تراءى لنا وجود العديد من السيارات الفخمة المصطفّة أِمّا بجانب الأرصفة أو على الدرب النصف دائري الذي كان يشكّل جزءاً من الحديقة الأمامية وسط الأزهار المزروعة بعناية وتنسيق حسب أنواعها وألوانها.
بعد إيقاف السيارة على مسافة من البيت دخلنا الحديقة من باب السور الخشبي الموجود على يسار المبنى. كانت باحتها وسيعة إذا ما قارنّاها بحدائق المنازل المجاورة وكانت منصّة مستطيلة ومبلّطة ومسقوفة بسقف خشبي جميل من الناحية اليسرى تواجه المسبح الذي كان موجوداً من الناحية اليمنى. قام صاحب البيت وزوجته باستقبالنا وتعريفنا على المدعوّين والذين كانوا يجلسون موزعين بشكل مجموعات صغيرة وكان عددهم يزيد على الثلاثين شخصاً. كان الكثير من الموجودين قد أثروا في بلاد الشرق الأوسط وقد انتقوا مونتريال في آخر المطاف كمدينة للتمركز والعيش فيها.
جلست على كرسي بلاستيكي بجانب أحد المعازيم. كان يرتدي قبّعة من القشّ إيطالية الشكل ويضع نظارات شمسيّة على عينيه وهو ممتلئ البنية، يلبس قميصاً مبرقعاً من لون نيليّ ذَا أكمام قصيرة وقد ترك الأزرار العليا مفتوحة لتظهر شعر صدره والسلسة الذهبية التي يعلّقها في رقبته. وبابتسامة لطيفة كان يحرك يده اليمنى كلّما تكلّم بينما يده اليسرى مرفوعة بعض الشيء وهي تحمل ساعة الرولكس الذهبيّة على المعصم وسيجاراً كوبياً بين الأصابع. بادرني بسؤالٍ عن تاريخ وصولي الى المدينة ومن أين أتيت! بعد أِجابتي استطرد سائلاً:”ما هو نوع السيارة التي تقودها؟”
فوجئت بسؤاله! لِمَ يسأل عن نوع السيارة؟ شعرت ببعضٍ من الأِحباط! أهكذا يُقيَّم الانسان، من موديل سيّارته؟
عادت بي الذكريات الى ماضٍ خلا. وبالتحديد الى سنة ١٩٧٣ حيث كنت فيها قد انتخبت رئيساً لرابطة طلاّب الكلية العليا للهندسة في بيروت والتي كانت قسماً من الجامعة اليسوعيّة.
جرت العادة أن يُنظٌم الطلاّب سنوياً حفلاً راقصاً في أحد الفنادق الفخمة من العاصمة بيروت. وإذ كنّا نريد ان ننظم سهرة لم يسبق لها مثيل، قرّرت مع مجلس الطلاب أِقامتها في كازينو لبنان والذي كان قبلة الأماكن الفخمة في الشرق الأوسط. لدى زيارة الموقع قمنا بتفحّص صالة السفراء وهي اكبر صالة للحفلات لدى الكازينو. كان سقفها المرتفع ومقاساتها والديكورات الخشبيّة والالوان تعطيها رونقاً خاصاً. بعد التفاوض مع الأِدارة ودراسة التفاصيل وقّعت عقداً باستئجار الصالة لأِجراء الحفلة بتاريخ العاشر من آذار (مارس) من تلك السنة.
دعوت الوزير الأسبق الراحل بيار حلو ليكون راعياً للحفلة. كان لا بد من تذليل بعض العقبات الصغيرة أهمها بروتوكول طاولة الشرف التي تضمّ الوزير الأسبق الراحل جوزيف نجّار والذي كان أستاذاً في الكليّة، وعميد الكليّة الأب”جرفانيون” الفرنسي والذي قد أطلق عليه الطلاب لقب”١٠:١٠ “ للطريقة التي كان يحرّك فيها رجليه عندما يمشي ، الى نقيب المهندسين حينذاك ريمون روفايل والى من أكّد حضوره من زوجاتهم!
نهار الحفل قصدت ان أكون في الكازينو بنحو ساعتين قبل الموعد لأتأكّد من أن كل شيء سيتم على أكمل وجه. كنت قد كلّفت فتاتين من تلميذات الجامعة بتوزيع وردة على كل سيدة تدخل القاعة.
كنت أرتدي بدلةً من الجوخ الناعم الرمادي المقلّم بأزياح ناعمة من لون غامق وقد قمت بتفصيلها لدى خياطٍ ماهر في بناية الستاركو في بيروت. لمّا كنت ألبس ذاك الطقم بالأِضافة الى القميص الناصع البياض والذي قمت بخياطته لدى محلاّت”بلاّن” وعقدة العنق المصنوعة من الحرير الملوّن والحذاء الجلدي الاسود، كنت أخال من ينظر أِليّ أنّه يحسبني أحد المشاهير!
كنت أقود سيارة فولكس ڤاكن شكلها يسمّى بالخنفساء. كان لها من الخدمة نحواً من ست سنوات. كان لونها أزرق سماوي. لم تكن مجهّزة بجهاز راديو وكنت أغني طوال الطريق لأسلّي نفسي ولم يكن ينزعج أحد من صوتي لأني كنت لوحدي في معظم الأوقات! أما أِذا صدف وجود أحدهم برفقتي فكان صوت المحرّك يطغي على رداءة صوتي!
لما وصلت الى الكازينو كان الموقف خالياً من السيارات. لم أرد أن أوقف سيارتي أمام المدخل بل بعدْتُ نحواً من خمسين متراً عن المدخل. نزلت من السيارة، أقفلت الباب وتوجهت نحو المدخل وأنا مزهوٌ بنفسي. ما أن اقتربت بضع خطوات حتى أقترب مني احد مستخدمي الموقف وكان يرتدي كرفاقِهِ سترة رمادية مع قبّة من الساتان اللميع وذلك فوق سروال اسود وقبعة صغيرة. قال لي بتهذيب وهو يشير بيده اليمنى باتجاه زاوية الموقف:”لو سمحت! لبعيد!”
عدت الى السيارة وفتحت الباب وادرت المحرك وأبعدت سيارتي مسافة لا بأس فيها. نزلت وأقفلت الباب وما ان بدأت بالمشي باتجاه المدخل حتى سمعت صفيراً من ناحية المدخل! كان الموظّف عينه! أنزل يده عن شفتيه وصرخ لي من بعيد وهو يومئ بكلتي ذراعيه وكأنه يشير الى طائرة تسير على المدرج: “على الآخر! على الآخر!…”
عدت الى السيارة وقدتها الى الطرف الأبعد من الموقف الكبير ثم عدت مشياً لأقطع المسافة التي طالت كثيراً نحو المدخل الرئيسي وكان كتفاي قد هبطا نحو الأسفل وقوقعت استقامة ظهري…
لما خرجت بعد الأِحتفال كان مستخدمو الموقف بانتظاري وقد عرفوا أني كنت من نظّم الأِحتفال فضربوا لي التحية وأسرع أحدهم نحوي وأخذ مني المفاتيح وأصرّ على أن يُحضر السيارة بنفسه!
وللقصّة تتمّة…