بقلم: خالد بنيصغي
مكناس منطقة فلاحية تمتاز بكثرة أشجار الزيتون ، والذي يستغل منه الكثير للعصر واستخراج الزيت ، وزيت الزيتون المكناسي مشهور بجودته ، ونقائه ، ولذته . كذلك تشتهر المنطقة بحقول العنب والذي يمتاز بجودته ويتم تصديره إلى عواصم أوروبية وتعتبر مدينة مكناس من أكثر مدن المغرب إنتاجا للمحاصيل الزراعية. تقع غالبية مزارع الكروم في مدينة مكناس، وهي المنطقة ذاتها التي كان يزرع فيها الفينيقيون والرومان العنب قديما .
وقد بلغ إنتاج المغرب من النبيذ ذروته إبان حقبة الاستعمار الفرنسي حين زرعت أنواع عديدة من العنب لتلبية الطلب من جانب الفرنسيين المقيمين في البلاد . وبعد استقلال المغرب ، أضحت شركة (أقبية مكناس) من أشهر معامل إنتاج النبيذ في المغرب، حيث تنتج زهاء 70 في المئة من النبيذ المغربي وتنتج تلك الشركة ، التي يمتلكها مستشار سابق للملك الحسن الثاني ، أنواعا عديدة من الكحول ، ويبيع لوحده أكثر من 27 مليون زجاجة نبيذ سنويا من أصل 40 مليون زجاجة في السوقين العالمي والمحلي .
أنا ابن مكناس ، هذه المدينة التي بهذه الأوصاف التي ذكرتها ، لست أدري إن كنت أعتز بانتمائي هذا أم أندب حظي لهذا الانتماء ؟؟
أما اليوم فمكناس تلك المدينة التائهة في غيابات الظلام الدامس ، تائهة في أيادي مسؤوليها وهم يعبثون بها ، تحت أنواء الخريف وأمواه الشتاء .. ، مكناس تلك الصدمة التي أصابت ساكنتها فأصبحوا بلا تاريخ ولا حاضر ولا مستقبل ..
لن يصرخ المكناسيون أكثر مما صرخوا في وجه المسؤولين المتعاقبين على المدينة خلال العقود الثلاثة الأخيرة ، ولن يصرخوا في وجه المسؤولين الحاليين ، فجلهم متشابهون في طريقة تدبيرهم لشؤون المدينة ، هم صنفان لا ثالث معهما ، إما مسؤولين ناهبين لخيرات المدينة ، أو مسؤولين – لم ينهبوا شيئا – لكنهم عاجزون عن أي إبداع يعيد هيبة المدينة التاريخية والجغرافية والاجتماعية …
مدينة بكل هذا الغنى ترتسم في وجهها كل علامات البؤس والقتامة ، لم يعد أي شيء يثيرك في هذه المدينة ؟؟ ربما فقط تلك العناقيد من العنب الطازج في صيفها الحارق .. هذا العنب الذي جعل المدينة تصاب باللعنة ، نعم اللعنة تطال هذه المدينة الجميلة لتحولها إلى غول منبوذ ..
27 مليون زجاجة نبيذ سنويا من أصل 40 مليون زجاجة في السوقين العالمي والمحلي . في مدينة من دولة إسلامية ، ولم تكن إلا مدينتا مكناس من تقمصت دور الساقي للسكارى المغاربة والأوروبيين وغيرهم ، لم يكن هذا إلا ضرب من تلك اللعنة التي أصابت هذه المدينة التي حباها الله أحلى عناقيد الدالية ، فعوض أن تفتخر بهذه الوفرة من هذه الفاكهة الرائعة ، وتسخرها في السوقين المحلي والعالمي عناقيد ذات بهجة ، أبت إلا أن تحولها إلى نبيذ حرمه الإسلام وحرم كسبه ومداخيله .. فكيف ستقوم لهذه المدينة قائمة ؟؟
توالت الكوارث في هذه المدينة فتحولت من مدينة ذات بهجة وحسن وجمال إلى مدينة الأشباح بلا روح وبلا مستقبل ، ويكفي أن نلخص هذه الكوارث في النقط التالية :
1 – الغضبة الملكية : لم يعد خافياً على أحد غضبة الملك محمد السادس في أكثر من مناسبة على مسؤولي هذه المدينة الذين بالغوا في استهتارهم بمتطلبات المدينة ، ويكفي الإشارة إلى أن الملك لم يزر هذه المدينة المغربية زيارة رسمية منذ توليه حكم المملكة المغربية ، بالرغم أن الساكنة لا ذنب لها في تكاسل المسؤولين والإخلال بمسؤولياتهم .
2 – وجه المدينة البئيس : أتحدى أي مسؤول مهما بلغت درجة مسؤوليته في المدينة أن يخبرني ماهي الأماكن التي يمكنني التجول فيها بضيف لي حل بمكناس ؟؟ صهريج السواني مثلا ؟؟ تلك البِركة من الماء الراكد ؟؟ ماالذي فعله المسؤولون المتعاقبون لتنمية تلك المعلمة التاريخية منذ عهد السلطان مولاي إسماعيل ، فمنذ أن كنت صغيرا وأنا أرى تلك البقعة بنفس الصورة ؟؟ وقس على ذلك جل مآثرها التاريخية ، وهذا راجع لإخلال المسؤولين بمسؤوليتهم أو لأنهم عاجزون تمام العجز على الإبداع .
3 – حدائق تحولت إلى أشباح : منتزه المنزه كان من المفروض أن تنتهي الأشغال به قبل 20 سنة ؟؟ صدقوني إنها الحقيقة ليس ما أقول خيالا .. لا زلت أتذكر كلمات الصحفي المغربي الكبير “ مصطفى العلوي “ عندما كان يعلق على المشروع “ الحديقة “ والذي دشنه وزير الصحة آنذاك الدكتور “ أحمد العلمي “ كانت الأشغال ستنتهي به في شهر يونيو 1998 ، وحتى الآن أصبحت الحديقة عبارة عن أشباح أصابت المدينة باللعنة ، والأدهى من ذلك أن المسؤولين “مشكورين” تركوا هذا المشروع وشأنه، وقاموا بمشروع مشابه له في الجهة المقابلة له في اتجاه “ سيفيطا “ أي إنشاء حديقة ثانية ، وبدأت الأشغال ثم توقفت ؟؟ وحتى الآن وبعد مرور حوالي 10 سنوات لم يكتمل المشروع؟ وأصبح هو الآخر شبحاً من الأشباح أصابت المدينة باللعنة . وانتظروا الصدمة الموالية إذا أخبرتكم أنه هناك مشاريع لأكثر من 30 سنة لم تكتمل حتى الآن “ مسابح ومطاعم ومقاهي “ باب بوعماير” ؟؟ والحديث عن مشاريع مكناس لا تنتهي أبدا في هذا المقام ، لكن ميزانيتها انتهت طبعاً دون أن يدري المكناسيون كيف ومتى وأين انتهت ؟؟
4 – وجه المدينة الرياضي مات وانتهى : يسرني أن أتحدث إليكم عن فريق النادي المكناسي صاحب التاريخ العريق ، إنه فريق مدينتي الجميلة مكناس ، أحببته منذ صغري واستمتعت بنجومه الكبار حتى الذين لم أشاهدهم بل فقط سمعت عن مجدهم، فاستمتعت بأسماء من مثل “ حمادي حميدوش “ والمرحوم “ عزيز الدايدي “ و” كماتشو “ ثاني هداف في المنتخب المغربي، “ ومصطفى بيدان “ والحارس “ بنحليمة “ وغيرهم ، وكل هؤلاء لاعبون دوليون كبار ، فريق النادي المكناسي أحرز لقب البطولة مرة واحدة 1995 ، ولقب واحد في كأس العرش ، فيما خسر نهائيتيْن ، كما شارك في دورى أبطال إفريقيا وخرج مرفوع الرأس أمام الزمالك المصري ، كما شارك في كأس الاتحاد الإفريقي وكأس العرب ، وشرف الكرة المغربية ، هل تعتقدون بعد كل هذا أنه ينافس الآن على لقب البطولة الاحترافية الأولى ؟؟ للأسف لا ليس هذا ، لأنه أصيب باللعنة ، نعم ، أعرف أنكم تظنون أنه سقط إلى البطولة الاحترافية الثانية ؟؟ لا بل أصابته اللعنة ، والكارثة أنه سقط إلى قسم الهواة ؟؟ نعم لا عجب ولا غرابة في فريق ومدينة أصابتهما اللعنة ، والأغرب من هذا أن الفريق عاجز بمسؤولي المدينة الغنية بمواردها والفقيرة بتدبير مسؤوليها – عاجز تمام العجز – حتى على تحقيق الصعود والعودة إلى البطولة الاحترافية الثانية ؟؟
لم أنس أن أخبركم أن مكناس كانت في الأمس القريب عملاقاً في أنواع رياضية كثيرة نذكر منها كرة اليد ، وكرة الطائرة ، وكرة السلة “ إناث “ وكرة الطاولة “ و “السباحة “ و” ألعاب القوى “ و “ الدراجات الهوائية “ و الكراتيه “ .. وكلها رياضات حصد فيها النادي المكناسي ألقابا وبطولات كثيرة ، أما اليوم فلم نعد نرى لها أي قيمة حتى على الساحة الوطنية ، لقد فقدت بريقها وانتهى الأمر ، دون أن يحرك المسؤولون ساكنا ؟؟
هؤلاء المسؤولون “ عامل الإقليم “ و “ عمدة المدينة “ والباشا والقائد ورئيس المجلس البلدي ، ورؤساء ومدراء المؤسسات العمومية وغيرهم من أعيان المدينة في القطاع العام والخاص، ملزمون بإيجاد الحلول الناجعة للنهوض بالمدينة التي تموت في صمت ، ملزمون بالتحرك اليوم قبل غد لإنقاذ مايمكن إنقاذه ، فالتاريخ لم يرحم المسؤولين السابقين ، ولن يرحم المسؤولين الحاليين إذا هم بقوا في سباتهم غير آبهين ولا مكترثين بوجه المدينة ، وهم يدركون أن جل المدن المغربية صاعدة بشكل مثير ولافت ، فيما مكناس تقف كالمتفرج ولا تتقدم قيد أنملة. بل تتراجع بشكل ينذر بالغليان والانفجار ، فمكناس أعياها الصبر والانتظار .
لقد تعبت الساكنة من الخطابات الحماسية في المناسبات الانتخابية كما يفعل “ مزوار “ الذي لا تراه الساكنة إلا في مثل هذه المناسبات كي ينجح ثم يغيب ، دون أن يفي ولو بكلمة واحدة مما قال ، ولكن في المقابل فالتاريخ يذكر من يخدم المدينة بتفان وحب ، نريد رجالا من مثل السيد “ أوريد “ الذي كان عاملا على مكناس في وقت سابق ، والذي فعلا ترك بصمته في المدينة ، كمشاريع الحدائق الذي بدا بشكل لافت ، حتى لقبته ساكنة مكناس بالسيد “ أجريد “ عوض “ أوريد “ نسبة إلى الحدائق الخضراء التي أنشأها .. فمكناس تموت في صمت أو قل ماتت وانتهى . فيما أن هناك أفكاراً رائعة يمكنها أن تغير ملامح المدينة وجلب السياح من كل بقاع العالم ، عوض أن تظل مكناس منطقة عبور فقط .