بقلم: د. حسين عبد البصير
مدير متحف الآثار والمشرف على مركز
الملكة تاوسرت
الملكة تاوسرت هى آخر ملوك عصر الأسرة التاسعة عشرة. وأطلق عليها المؤرخ المصرى مانيتون السمنودى «ثوريس». وحكمت حوالى عامين كملك مصر منفردة. ويعنى اسمها «القوية».
وحكم سيتى الثانى مصر ست سنوات غير مميزة. وكانت زوجته الكبرى تاوسرت. ونظرا لأن خليفته مات، انتقل العرش إلى رمسيس-سابتاح الذى ربما كان ابنا لسيتى الثانى من زوجة ثانوية (ربما كانت الزوجة الأجنبية سوتايلجا) أو ربما أنه كان ابن آمون مس. ومن العام الثالث من عهد هذا الملك غير اسمه إلى مرنبتاح-سابتاح، والمعروف باسم سبتاح. وربما كان هذا الملك مريضا كما ظهر من فحص موميائه؛ فاحتاج لشريك فى الحكم. وكانت أمه غير مناسبة للقيام بهذا، ربما بسبب أصولها الأجنبية أو عدم انتمائها لأصل ملكى أو لوفاتها. وقامت تاوسرت بهذا الدور لابن زوجها. ولم تحمل تاوسرت لقب «ابنة الملك»، غير أنها ربما كانت ابنة لأحد فرد ملكى، أو ربما مرنبتاح. وفى عام 1908، عثر إدوارد أيرتون على خبيئة مجوهرات الأسرة التاسعة عشرة فى «المقبرة الذهبية» رقم 56 بوادى الملوك حيث يظهر اسما تاوسرت وسيتى الثانى. وتمثل هذه الخبيئة بقايا الأثاث الجنائزى بمقبرة تاوسرت التى تمكن إنقاذها آنذاك بعد أن أغتصب مقبرتها ست نخت أول ملوك الأسرة العشرين، أو ربما تمثل دفنة ابنتها الصغيرة.
واستعانت تاوسرت بـ»مستشار كل البلاد»، «بيا»، الذى ربما سوريا. وغير معروف دوره، غير أن هذه الجملة «الذى وضع الملك على عرش أبيه» ربما تشير إلى أنه لعب دورا كبيرا فى دعم الملك سبتاح (وتاوسرت) كملك على العرش. وتم تصويره بجوار حاكم مصر فى مرتين، الأولى مع سبتاح واقفا وراء عرشه، والثانية مع تاوسرت واقفا مواجها لها على عتب معبد عمدا فى النوبة. وكان «بيا» شخصا بارزا فى السياسات المصرية لاربع سنوات، واختفى. وربما قُتل فى العام الخامس لسبتاح. وبوفاته صارت تاوسرت الحاكم الوحيد لمصر.
ولم يترك سبتاح دليل على وجود زوجة ملكية له، ولا يعنى هذا أنه لم يتزوج. وعلى هذا كانت تاوسرت تحكم نيابة عنه، ولهذا السبب لم يشعر بالحاجة إلى وجود امرأة أخرى كى تملأ هذا الفراغ، فمارست تاوسرت هذا الدور. ومات سبتاح فى العشرين من عمره، دون وريث ذكر للعرش. فقفزت تاوسرت للعرش، وربما تزوج من سابتاح كى تحكم قبضتها. واتخذت لقب «ملك» فى صيغته الذكورية، والعديد من الألقاب الملكية مثل «سات رع، مريت آمون» ويعنى: «ابنة رع، محبوبة آمون»، و»ابنة رع، سيدة الأرض المحبوبة، تاوسرت المختارة من الإلهة موت». وتولت تاوسرت الحكم فى ظروف مغايرة وفى أوضاع سياسية متأزمة، وربما كان توليها العرش إحدى علامات الضعف السياسى آنذاك. وصارت العائلة المالكة فى أشد لحظات ضعفها، وصار التنافس على العرش شديدا بين أفرادها. وفقدت الإمبراطورية المصرية عوائدها من الخارج. وحدث تضخم كبير ونقص حاد فى المواد الغذائية فى البلاد، واندلعت حرب أهلية متقطعة فى البر الغربى لمدينة طيبة (الأقصر الحالية)، وقام الليبيون بتهديد الحدود الغربية والدلتا.
وماتت تاوسرت. ولا نعلم إن كانت ماتت ميتة طبيعية كملك لمصر، أم أن خليفتها الملك ست نخت خلعها من العرش كما يُستشف من لوحته التذكارية فى إلفنتين فى أسوان. وبغياب تاوسرت، تنتهى الأسرة التاسعة عشرة.
وشيدت تاوسرت معبدا غير مكتمل فى البر الغربى لللأقصر إلى الجنوب من معبد الرامسيوم الخاص برمسيس الثانى. واتخذت لنفسها مقبرة كملك فى وادى الملوك، حيث كان الدفن مقصورا على الملوك. وحملت مقبرتها رقم 14 بين مقابر الوادى. وبدأ العمل فى هذه المقبرة فى عهد سيتى الثانى، وربما كانت مخصصة لدفن سيتى الثانى وتاوسرت، وتم توسيعها فى عهد مشاركتها فى الحكم، ثم ثانية فى عهد حكمها. ولم يتم الانتهاء منها عند وفاتها. واغتصب المقبرة ست نخت، أول ملوك الأسرة العشرين، ووسع المقبرة لتصبح واحدة من أطول مقابر وادى الملوك. ورفع منها دفنة تاوسرت (وغير معروف أين هى الآن)، وأعاد دفن سيتى الثانى فى مقبرة رقم 15 فى وادى الملوك. غير أن القدر كان بالمرصاد، فتم سرقة مقبرة ست نخت نفسه بعد ذلك، وتم إعادة استخدامها فى عصر الانتقال الثالث الذى يبدأ مع الأسرة الحادية والعشرين التالية لأسرته. وتم تصوير تاوسرت كملك حاكم فى مقبرتها. وتم تزيين مقبرتها بكتب عدة من كتب العالم الآخر المعروف فى مصر القديمة مثل كتاب البوابات وكتاب الكهوف.
ولم يتم العثور على مومياء تاوسرت، إلى الآن. وإن كان يُعتقد أنها قد تكون صاحبة المومياء الموسومة بـ»المرأة غير المعروفة د»، والمكتشفة فى الخبيئة التى تم اكتشافها فى مقبرة الملك أمنحوتب الثانى، رقم 35 فى وادى الملوك، والموجودة حاليا فى المتحف المصرى فى ميدان التحرير.
لقد كانت تاوسرت ملكة عظيمة، وعاشت فى فترة قلقة للغاية من تاريخ مصر القديمة، وشهدت أحداثا جسيمة، غير أنها أبلت بلاء حسنا بقدر المستطاع. ومن المحزن هو ما تعرضت له هذه الملكة من تدمير وتشويه لتاريخها وآثارها وسرقة مقبرتها والعبث بموميائها من ملوك الأسرة العشرين التالية لها. وقد يكون هذا شأنا مصريا بحتا، وهو أن يمحو اللاحق تاريخ السابق. ربما!
الملكة تي الخائنة والملكة تي الفاضلة
من المعروف أن مصر القديمة كانت كأى مجتمع إنسانى تمور بحياة عارمة تتأرجح فيها حياة المرء بين المجد الذى لايُضاهى والضعف الإنسانى لدى البشر العاديين أجمعين. وفى هذا السياق الحضارى المتنوع، لا يمكن إغفال أو تجاهل حياة القصر الملكى -الذى كان يعيش فيه الملك مع أفراد عائلته والمقربين من حاشيته- بكل ما كانت تعج به من أحداث جسام ارتفع بعضها إلى درجات عظمى وانحط البعض الآخر إلى منازل دنيا من الخيانة والخسة والدناءة. وغلبت الغيرة والطموحات والمؤامرات حياة القصور الملكية المصرية القديمة فى بعض المناسبات. وامتلأت تلك القصور -التى كانت ملء البصر- بصراعات محمومة لا حدود لها، كانت أحيانا معروفة للجميع وأحيانا أخرى مكتومة تحت السطح. وكان من أهمها الصراع والتآمر على العرش، وأحيانا على الملك نفسه، بين الزوجات الملكيات أمهات أولياء العهود الشرعيين والزوجات الثانويات وأبنائهن الطامحين للحكم بعد رحيل الملك الأب وصعود روحه إلى مملكة السماء واتحاده بالأبدية.
وعلى الرغم من أن الوثائق الرسمية لم تكن تميل إلى تسجيل تلك الوقائع التى لم تكن تتناسب مع جلال وعظمة الملكية المقدسة فى مصر القديمة، وتتناقض تماما مع الصورة المثالية التى كانت العائلة الملكية تتوق دوما لإظهار نفسها عليها، يمكن استنتاج بعضا من تلك الوقائع الاستثنائية التى وصلت إلينا فى عدد محدود من النصوص المصرية القديمة، مثل بعض السير الذاتية، والتى لم يكن الهدف من ذكر تلك الأحداث فيها عرضا الطعن فى الملكية المصرية المقدسة، بقدر التأكيد على رغبة صاحبها فى إظهار أهميته واستخدام الواقعة المذكورة دليلا على تلك الأهمية المزعومة، مثل ما ما جاء فى سيرة الموظف «ونى الأكبر»، من الأسرة السادسة حين ذكر التحقيق مع الملكة «ورت إمات إس».
ومن المعروف أن الملك رمسيس الثالث، آخر فراعنة مصر العظام، تزوج من زوجتين تحمل كل منهما اسم «تى» مع اختلاف كتابة اسم كل منهما. الأولى خائنة، والأخرى فاضلة.
وكانت الزوجة الأولى هى الملكة تى التى كانت زوجة ثانوية من زوجاته. وقامت بمؤامرة ضد الفرعون مما جعل التاريخ يذكرها. وكانت هذه من المرات القليلة التى تحدثنا النصوص المصرية عن شىء كهذا. ونعلم عن تلك المؤامرة من المحاكمات التى تمت للمتهمين من بردية تورين القضائية. وتعرف المؤامرة بـ»مؤامرة الحريم». وشارك فى المؤامرة عدد من حريم القصر الملكى وبعض سقاة البلاط وحرسه وخدمه. ولم يعرف هدف هؤلاء المتآمرين. ولعل السبب الأساس لتلك المؤامرة أن هذه الملكة الثانوية، «تى»، بالتعاون مع بعض نساء القصر، خططت لاغتيال الملك كى تضع ولدها «بنتاورت» على عرش مصر بدلا من ولى العهد الشرعى، الملك رمسيس الرابع بعد ذلك. وانكشفت المؤامرة، وحُقق فيها بأمر من الفرعون. وحكمت المحكمة على المتهمين بأحكام تتراوح بين الإعدام والانتحار والجلد والسجن وقطع الأنف وصلم الأذن والبراءة، كل وفقا لدوره وجريمته فى تلك المؤامرة المشينة.
ومن المعروف أن هناك مومياء لرجل غير معروف فى المتحف المصرى بميدان التحرير. وتعروف علميا بـ»مومياء رجل غير معروف إي». ويشيع تعريفها بـ»المومياء الصارخة» أو «مومياء الرجل الصارخ». ويرجح البعض أن تكون هذه المومياء للابن بنتاورت. وفى الغالب فقد تم قتل الملك بقطع رقبته من الخلف، كما أكدت الدراسات الحديثة التى تم أجراؤها على موميائه الموجودة فى المتحف المصرى فى ميدان التحرير. وفى هذا ما يؤكد صدق الأساليب البلاغية التى استخدامها فى النص الأدبى حين أشار إلى أن القارب الملكى قد انقلب، مما يرمز إلى وفاة الملك وصعود روحه إلى السماء. غير أن المؤكد أن المؤامرة قد فشلت بدليل تولى ولى العهد رمسيس، الملك رمسيس الرابع لاحقا، خليفته الطبيعى، عرش البلاد بدلا من بنتاورت الذى قُتل أو إُجبر على الانتحار. ولا نعرف شيئا عن مصير أمه، الخائنة الملكة، تى.
ويجيء هذا النص الفريد الذى يذكر تلك الواقعة المثيرة من النصوص الرسمية. وهذا يشير إلى تغير كبير حدث فى مفهوم الملكية المقدسة التى أصبحت هنا تميل إلى تصوير الفرعون فى صورة بشرية إنسانية به ضعف مثله فى ذلك مثل باقى البشر العاديين، ولم يعد ينظر إلى الفرعون على أنه إله يحكم على الأرض نيابة عن آبائه الآلهة المقدسين فى أعلى عليين.
والزوجة الثانية الفاضلة والرئيسة للملك رمسيس الثالث هى الملكة تى، التى ربما كانت أم خليفته، الملك رمسيس الرابع. واتخذت الألقاب الملكية التالية «الزوجة الملكية الكبرى» و»ابنة الملك» و»أخت الملك» و»أم الملك». وربما كانت ابنة الملك ست نخت من ملوك الأسرة العشرين. وكان لها من الأبناء، بالإضافة لرمسيس الرابع، خع إم واست، وآمون حر خبش إف، ورمسيس مرى آمون. ومن الملاحظ تأثر وتقليد رمسيس الثالث، بمثله الأعلى، رمسيس الثانى، حتى فى تسمية أبنائه. وحفلت هذه الملكة العظيمة بحياة مبجلة. وبعد موتها، تم دفنها فى مقبرة رقم 52 فى وادى الملكات.
تلك قصة ملكتين حملتا نفس الاسم وتزوجتا من ملك عظيم، إحدهما كانت خائنة شاركت فى مؤامرة لقتل زوجها ووضعها ولدها بدلا منه على العرش، والأخرى فاضلة وقفت إلى جوار زوجها وولدها، وتحملت صدمة قتل، وكافأها القدر بتولى ابنها، ولى العهد الشرعى الذى اختاره أبوه الملك، حكم البلاد، فعاشت حياة سعيدة فى عهد زوجها وابنها الملك من بعده. وحين ماتت تم تبجيلها وإكرامها، فطابت ذكراها إلى وقتنا الحالى. تلك الغيرة بين النساء والصراع على العروش واللذان من الممكن أن يفعلا أكثر من ذلك، غير أن هذه حالات قليلة حدثت فى مصر القديمة، مما يدل على طبيعية وبشرية مصر القديمة كأى مجتمع قديم أو حديث.
البقية في العدد القادم